شبكة النبأ: هنالك شبه إجماع توصل
اليه الخبراء في مجال الإعلام، على قوة تأثير الصورة في صياغة الوعي
ونشر الثقافة المعرفية. فاذا كان التلفاز في بدايات انطلاقاته عام 1939
على يد "بي – بي –سي" البريطانية – حسب بعض المصادر- ثم تنافس الالمان
والروس و الأميركان على توظيفه سياسياً، فان مسيرة التطور التكنولوجي
الذي شهده العالم، حمل هذه الوسيلة الاعلامية من أروقة السياسة ودعايات
الحروب وخطابات الحملات الانتخابية، الى عالم الفكر والثقافة وصناعة
رأي عام محلي وعالمي من شأنه تغيير المواقف ومسار الاحداث بشكل كبير،
الامر الذي جعلها وجهاً لوجه أمام الكلمة المقروءة، رغم اهميتها
التاريخية والحضارية، وما تحمله من ابعاد علمية وفكرية وثقافية.
واذا اردنا ايجاد تفسير لنجاح الصورة في الوقت الحاضر وتفوقها على
الكلمة المقروءة في بلادنا، ما علينا إلا أن نلقي نظرة متأنية على
الخلفية التاريخية للنتاج الثقافي، ففي عقدي الخمسينات والستينات شهدت
الأمة نشاطاً كبيراً في حركة التأليف والنشر، مواكبة لحركة التحرر
الوطني في عديد البلاد العربية والاسلامية، فقد ظهرت أقلام لمفكرين
وأدباء وكتاب منحدرين من اتجاهات عديدة، تسعى لتطوير قيم انسانية مثل
الحرية والعدالة وحق تقرير المصير والدفاع عن العقيدة، الى جانب تكريس
القيم الدينية والاخلاقية أسهمت في صناعة قاعدة معرفية – فكرية للشعوب
الخارجة توّها من قيد الاستعمار المباشر.
صحيح؛ إن هذا الخطاب، كان يتسم بالمحدودية لشريحة طلبة الجامعات
وبعض المتعلمين، إلا انه أسهم في تأسيس جيل واع يحمل هوية ثقافية واضحة،
كان له دور في قيادة الساحة الجماهيرية، والتأثير على الاحداث السياسية،
وربما هذا يصدق بشكل واضح على الساحة الاسلامية، حيث كانت للكلمة
المقروءة في مصر والعراق وايران على وجه الدقّة، تأثير كبير وملحوظ في
صناعة رأي عام اسلامي وجه الساحة نحو التغيير الاجتماعي والسياسي.
هذه الصولة للكلمة المقروءة، نراها تراجعت أمام تقنية الصورة وما
لها من قوة جذب، جعلت المتلقي يقلل اهتمامه بالكلمة المقروءة، رغم
المحاولات الرامية لانتقالها الى الاعلام المسموع والمرئي فيما بعد.
الخبراء والمعنيين بالامر يرون السبب في هذا المآل عائد الى أمرين:
الاول؛ في ذات الفكر والمفكرين، والثاني؛ في الوضع النفسي الذي يعيشه
المتلقي.
بالنسبة الى الامر الاول؛ فانه لا شك في أن الكلمة المنتقلة من
المطبوع الى المرئي، كما هو في المحاضرات الدينية والمجالس الحسينية،
لها تأثير عميق وكبير في النفوس، إنما الحقيقة ايضاً، أن هذه الكلمة لم
تأخذ مدياتها الواسعة على الشاشة الصغيرة، فهي إما اقتصرت على وجوه
معينة، برعت وأحسنت في الأداء والفكرة والطرح، وإما اقتصرت بعامل
الزمان، كما هو في النشاط الملحوظ خلال شهري محرم الحرام وصفر الخير.
أما المحاولات الاخرى فهي ما تزال تحاول جاهدة للوصول بأفكارها
وطروحاتها الى اذهان المشاهدين، ومعايشة واقعهم النفسي والاجتماعي.
ولعل ابرز مثال للنجاح في هذا المجال، يتجسد في المحاضرات التي كان
يلقيها سماحة الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس
سره-. وباعتراف الجميع، فانه تمكن من إيجاد العلاقة الطيبة والعميقة
بين ما يطرحه من افكار ومفاهيم وبين المشاهد.
أما الامر الثاني، فان الانسان بطبعه محب للإطلاع والاستزادة من
المعارف وخوض المجاهيل، في كل شيء، سواء مايتعلق بالشؤون الانسانية، او
الطبيعة او الكون والحياة، ولا ننسى الجانب العاطفي الذي تلعب فيه
الصورة المتحركة دور المؤسس والموجه لهذه العاطفة، فربما تكون لإثارة
المشاعر الانسانية أزاء قضية معينة، بما يمكن ان تشكل موقفاً وتصنع
سلوكاً وثقافة جديدة لدى الفرد والمجتمع، كما يمكن ان تثير الغريزة
الجنسية الموجودة اساساً في الانسان. وتوجهها الوجهة الخاطئة.
هذه الحقيقة يؤكدها الخبراء والعلماء في مجال الاعلام المرئي، فقد
قيل أن "الصورة المرئية حملت على عاتقها كسر الحواجز الثقافية، وتمثيل
المسكوت عنه في ابجديات العالم الانساني. انها سلطة يعكف على صياغة
مشهدها لفيف من خبراء التواصل والتقنية معاً، ليتم تقديم مشاهد ابلاغية
تحفظ الوجود وتغيره حسب ما تراه مناسباً..".
من هنا؛ يبدو أن مقولة "في البيان لسحر" لن تكون بعد اليوم، وحدها
في عالم التأثير، إنما لابد ان تتعاضد مع الصورة المتحركة لتشكل مشهداً
متكاملاً يحمل منظومة ثقافية واحدة من شأنها تقديم البديل الافضل
للمشاهد. بمعنى أننا بصدد الاستفادة ما أمكن من الصورة في الاعلام
المرئي، رغم ما تشوبها من محاولات التجيير والتوظيف، وصولاً الى تحقيق
الحالة التكاملية في الطرح. ولعل خير ما يعزز هذه الرؤية لدينا هو
سماحة المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس
سره- عندما يشير الى الصورة، كأحد اهم عوامل صياغة الوعي والثقافة
الاسلامية، ففي كتابه "الى نهضة اسلامية" يقول سماحته: "للصورة دلالة
بالغة لا يؤديها غيرها". ويذهب سماحته الى أبعد من ذلك عندما يطرق باب
الخيال عندما يريد للصورة هدفها السامي وغاياتها الانسانية النبيلة.
حيث يقول في كتابه: " إن أمكن، رسم صور خيالية، تبشع المنكر، وتزين
المعروف، مثل أن يصور درهم وقع في يد فقير فأنتج سبعمائة درهم، على شكل
سنبلة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة..".
هذا ربما يكون نموذجاً مصغراً لما يمكن انتاجه من فن الصورة الهادفة
التي تقف خلفها الكلمة الآسرة.. هنا نكون امام استحقاق جديد يتطلب
تضافر جهود تقنية وعلمية تخرجنا من إعلام الكلمة والفكرة المجردة، الى
إعلام الصورة الهادفة والمعبرة. من اجل ذلك نرى الاهتمام المتزايد في
العالم على الجانب العلمي في أداء العاملين بالاعلام المرئي، من الكاتب
ومروراً بالمقدم ثم المخرج والمصور وحتى عناصر الانتاج التلفزيوني، حيث
تتداخل بشكل منتظم جميع العلوم الانسانية المطلوبة، مثل علم النفس
والاجتماع والتاريخ والاقتصاد وغيرها، حتى تكون الصورة او بمعنى آخر؛
القناة التلفزيونية، في درجة أعلى من التكاملية لا يشوبها خلل، لان هذه
القناة وتلك، إنما تعمل الى جانب مئات القنوات الفضائية التي تبث
باللغة العربية. وكلها تضخ معارف وثقافات وافكار متنوعة. وأحسب أن يكون
دقيقاً، أحد مدراء القنوات الفضائية العربية عندما وصف جهاز "ريمونت
كنترل" بانه بمنزلة المسدس الذي بامكانه إنهاء حياة القناة بزر واحد
فيتحول الى قناة اخرى.
فاذا كانت بعض القنوات الفضائية تهتم بالكفاءة العلمية لإيصال
الصورة المؤثرة على المشاهد، فان قنواتنا الفضائية، عليها أن تهتم
بالجانبين في خط متواز؛ تقنية الصورة، وقوة الطرح، من خلال إعادة قراءة
ودراسة الإرث الضخم من التاريخ والسيرة والروايات، الى جانب اعتماد
القرآن الكريم، كونه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه، وهو الينبوع الذي لا ينضب من المعارف والحكم والعبر. ثم إجراء
تقييم للأداء الموجود وصولاً الى افضل النتائج.
وقد اشار الى هذا الجانب ايضاً الامام الشيرازي في كتابه: "الرأي
العام وسبل توجيهه"، حيث قال: "..كما أنّ للفكرة أهمية في نجاح مهمة
الإعلام، فكذلك الأُسلوب الجيد، فيجب على مَن يتولى مهمة الإعلام أن
تكون له دراية كافية في كيفية مخاطبة الناس وإقناعهم.. وهناك الكثير
ممّن يحمل أفكاراً جيدة وسليمة، ولكن أُسلوبهم في التعامل مع الآخرين
لا ينسجم مع الناس، فغالباً يكون مصيرهم الفشل، وهذا من أهم الأخطار
التي غزت عالمنا الإسلامي اليوم..". |