لقد كان سان جوست أكثر شجاعة من روبسير عندما قال: يجب الحكم إما
بالفضيلة أو الارهاب، لأن الوقت لم يحن بعد لفعل الخير!!.. والسبب:
إقرار جوست علناً بعدم وجود وسيلة يُنظر إليها من ناحية فعاليتها وليس
من ناحية أخلاقيتها سوى العنف والإرهاب.
• تُهم باطلة:
الكثير من الجماعات الدينية العصبوية المتزمتة في عالمنا العربي
فضلت ومنذ وقتٍ مبكر السير على نهج جوست لأنه في اعتقادها الوسيلة
الأنجع للسيطرة على الفردوس الأرضي وحكم الدول تحت شعار الإسلام هو
الحل ولو كان حساب خراب الديار وهلاك الحرث والنسل وما ترتب على ذلك من
كوارث على الإسلام والمسلمين ابسطها توفير الذريعة وعلى طشت من ذهب
للمستشرقين الاميركيين والغربيين للترويج والتسويق عبر وسائل الإعلام
لتهمتين في غاية الخطورة هما:
1 – استعصاء الإسلام على الحداثة.
2 – أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا إلا متعصبين.
ربط مسار السياسات الدولية المتغطرسة تجاه قضايا المشرق العربي
والأوضاع العربية الداخلية المتأزمة ببوصلة العنف المتلبس بالدين في
العقدين الأخيرين لم يكن سوى انعكاسه طبيعية لتلك التهم الباطلة مسنودة
باعتقاد غربي طاغي بأن العلة الأساسية لكل الصراعات المتأججة في عالمنا
العربي مردها الدين وان المعتقدات والتوجهات الدينية هي التي أوغرت كل
هذه الصراعات وليس استعمارهم البغيض.
وهي تهم باطلة والاسلام منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب لسببين:
1 – أن الله لا يرضى بممارسة صنوف الإيذاء بين بني البشر باسمه.
2 – أن الدين شيء جميل والبشر هم الذين يجعلون منه أمراً قبيحاً
وعنيفاً.
فكيف إذا كان هذا الدين هو الاسلام خاتمة الرسالات والأديان
السماوية ودين السلام والمحبة والعدالة والمساواة والكرامة والتسامح.
فما هو العنف المقدس أو الظلم تحت مظلة الدين إذن؟ هذا ما نحاول
الوقوف على حقيقته في هذه القراءة السريعة على أمل أن تكون لنا قراءات
أخرى في قابل الأيام حول اسباب نموه وتطوره وعلاقته بسياسات وأجندات
الغطرسة الإمبريالية العالمية وموقف الاسلام منه والطرق الواجب اتخاذها
للحد منه.
• صراع شيطاني:
واحدة من الحقائق المسلم بها لدى كل البشر، هي: أن الصراع باسم
الدين بكل مستوياته شأن عالمي وموجود في كل الأديان السماوية والأرضية..
امتد مع نشوء البشرية وصراع هابيل وقابيل.. وعانت منه كل البشرية على
مر العصور والأزمنة.. وهو غالباً ما يُعلن ويُمارس تحت شعارات براقة
لاعتقاد هواته بأن الله يغفر العنف ما دام وأنه يُمارس باسمه.. ولذا
فهو في مفهوم الكاتب والمفكر اللبناني علي حسين غلوم ومفهوم كل العقلاء:
اعتقاد شيطاني خاطئ ولا أساس له في كل الشرائع، بل هو نابعٌ من الفهم
المشوه والتأويل الحرفي اللا واعي للنصوص الدينية وعدم فهم السياقات
التي نزلت فيها هذه النصوص.
كما أن الأديان وإن كان لها تأثير كبير ومحوري على الوجدان الإنساني
أكثر من أي فكر أخر، إلا أن هذا لا يعني أن الروح الدينية تنطلق من
فكرة إلغاء الأخر بل تدعو إلى الانفتاح عليه ومحاورته واستخدام الحكمة
والمنطق كوسيلة للإقناع.
العلامة محمد الشيرازي بدوره يرى أن: اللجوء إلى العنف باسم الدين،
أمر قبيح، لأن للأديان دور كبير ومباشر في نشر ثقافة السلام والتعايش
السلمي ودرء النزاعات وما ينجم عنها من مفاسد.. فقد أنزل الله الأديان
لتزكية النفس البشرية وتطهير القلوب وإقرار الخير في الأرض لا للخراب
والدمار.
• مفاهيم متعددة لأفة واحدة:
الحديث عن مفهوم العنف المقدس يستدعي الحديث عن مفاهيم أخرى ذات
ارتباط وثيق به لما لذلك من أهمية في الوقوف على حقيقته التدميرية
ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- التطرف الديني: ونعني به مجموعة من الأشخاص أو الجماعات أضافوا
إلى العقائد الدينية أكثر مما تحتمل، ولذا فهم يتصرفون وفق هذه العقيدة
المزيدة والمحرفة وعبر ألية وأقبية العنف، أي تحول الدين إلى مطية
لممارساتهم العنفية.
- الأصولية الدينية: ونعني بها مجموعة من الأشخاص أو الجماعات
نصّبوا أنفسهم للحديث نيابة عن الله، ولذا فهم يوجهون أحكامهم ضد
المخالفين لهم في الفكر أو العقيدة أو المذهب من منطلق عقيدتهم
وتأويلاتهم الحرفية والمحرفة للنصوص الدينية المقدسة، وبالتالي إضفاء
الشرعية على أعمال القتل والاغتيال والإيذاء والهجوم والتكفير وغيرها
من الأعمال الوحشية التي يستمرئونها في تعاملهم مع المخالفين لهم.
- العنف المقدس والعنف السياسي: العنف المقدس في أبسط صوره هو الذي
يظهر في المجتمعات المتدينة أو الآخذة بالدين أو المحكومة بالدين..
وعلى العكس من ذلك العنف السياسي فهو وإن كان أكثر شيوعاً وتأثيراً في
المجتمعات الإنسانية إلا أنه يتلون ويتمظهر بأشكال عديدة حسب مقتضيات
الحال، الدين أو المذهب أحدها وليس كلها، العنف السياسي أيضاً وإن كان
يمتد ليخل بالعلاقات الدولية والسلم الدولي عن طريق ما بات يعرف بتصدير
الأزمات الداخلية من قبيل إتهام دولة أو دول مجاورة بدعم مجموعة أو
مجموعات سياسية على حساب مجموعة أو مجموعات أخرى وما يجري في اليمن
ومصر وسورية والعراق ولبنان إلى حدٍ ما اليوم يدور في هذا الفلك.. إلا
أنه في طابعه العام متسمٌ بالحراك والتنوع والتجدد، ولذا فهو من
ضروريات الحياة ما دامت الإنسانية بحاجة إلى سلطة ونظام يدير شؤونها
ويدبر امورها.. عكس العنف المقدس الدائر في فلك الجمود والتقوقع
والانغلاق والأحادية والإلغاء.
• العدوانية باسم المقدس:
يعرف علماء النفس العنف بأنه: سلوك غريزي هدفه تفريغ الطاقة
العدوانية الكامنة داخل الإنسان.. وهو يمثل استثناء في حياة الإنسان
ترجمته الظروف غير العادية إلى قناة للتعبير الجاد عن الشعور الغاضب
الذي يختزنه الجمهور.. وهو لا يتقيد بقواعد وثوابت بل إنه يكتسب
فعاليته وقوته من كونه غير مقنن وغير مقيد بقواعد ثابتة، متفق عليها
ويمكن الاعتماد عليها في تقنينه وضمان عدم تجاوزه للحدود المرسومة.. ما
يجعله أكثر إخافة ورعباً وتدميراً من العنف والسياسي، لأن القواعد التي
يتقيد بها هي فقط كل ما يخدم القضية التي يناضل من أجلها هذا إذا كانت
له قضية أصلاً.
بعض الجماعات أو الفئات قد تحدد العنف كأداة مؤقتة ووسيلة آنية
فرضتها ظروف استثنائية، والمشكلة هنا أن القائمون على العنف قد يسيطرون
لبعض الوقت على مساراته لكن لا يستطيعون السيطرة كل الوقت، لأن خطورته
نابعةٌ في الأساس من كونه يمتلك من الخصائص الذاتية والتدميرية ما
يجعله قادراً على تجاوز كل الوسائل الأخرى، بحيث يصبح الوسيلة الوحيدة
التي تسيطر على السلوك الحركي العام.. وهنا يستنفذ العنف الغاية
ويحتويها ليصبح هو الهدف الاول والاخير.. وبمعنى أخر تغلب واقع الوسيلة
على الغاية ما يؤدي إلى إدخال ممارسة العنف في صلب الجسم الثقافي
والسياسي كله، وهذا أم المصائب.
والمصيبة الثانية تكمن في التحول الدراماتيكي الذي يمكن ان يحققه
العنف عندما يعجز كوسيلة أساسية عن الوصول للغاية المنشودة، بحيث يتحول
بالتدريج إلى أداة للتدمير الذاتي والخارجي فتفقد الجماعة القدرة على
إعادة التوازن الداخلي والحفاظ على التماسك وبالتالي تلاشي سلطتها
الداخلية والجماهيرية.
أما خاتمة الأثافي فتكمن في عدم توقف مشكلة العنف عند كونه أداة بل
قد يتحول إلى فكرة عقائدية تتجه إلى حالة من التقديس الجامح لفكرة
العنف والإيمان الذاتي والمطلق بمستخدميه كما هو حال تنظيم القاعدة
وداعش وأخواتها وقريباً منها التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وغيرها
من الجماعات الدينية المتزمتة التي حولت المجتمع كله وبلا استثناء إلى
عدو وهمي، بحيث صارت ترى من نفسها الأحق بالبقاء والأحق بالأفضلية
والأحق بالحكم والسيطرة المطلق والأحق باحتكار تمثيل الله في أرضه.. |