التعايش والتوازن لتحقيق الأمن الاجتماعي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: الشعوب والمجتمعات ذات البصيرة الحضارية، والتي تعيش ضمن حدود جغرافية معينة، ترنو دائماً نحو الأمن والاستقرار، لمعرفتها بأهمية العنصرين والعاملين في دفع عجلة البلد نحو التقدم والتطور في المجالات كافة، حتى وإن كان هذا "الدفع" على انقاض حروب وصراعات دامية، على اساس عرقي او قومي او سياسي. فهذه الولايات الخمسين في امريكا، عاشت معظمها حروباً طاحنة سقط جرائها المئات من القتلى، وفي التاريخ المعاصر، امامنا اوربا؛ حيث شهدت خلال الحرب العالمية الثانية، أكثر الحروب كارثية في التاريخ – حسب المؤرخين- حيث قتل حوالي سبعين مليون انسان، جزء كبير منهم في داخل هذه القارة الصغيرة. الى جانب الخسائر المادية الفادحة، بيد ان المخلفات النفسية والخسائر في الارواح والممتلكات لم تكن حائلاً أمام تشكيل الاتحاد الاوربي الذي يضم عدد من هذه الدول اضافة الى المانيا التي انطلقت منها هذه الحرب المدمرة.

صحيح، إن المنطلق للتعايش والعلاقات المتوازنة بين الدول الاوربية، كان تحقيق المصلحة الاقتصادية المشتركة، بيد ان العبرة والفائدة في تحقيق الأمن والاستقرار الكاملين في هذه القارة، رغم تعدد الاعراق والقوميات واللغات، فالاتحاد الاوربي وسائر المنظمات الدولية التي تأسست في اوربا، لم تلغ الفوارق الثقافية والأثنية ابداً، إنما الموجود هو التوازن في العلاقات بما يخدم مصالح الجميع. لنأخذ العملة الموحدة "يورو"، فهي أرهقت كاهل الدول الصناعية المتقدمة مثل فرنسا والمانيا وايطاليا، لكنها ساعت دول اخرى ضعيفة مثل اليونان وايضاً الدول الحديثة العهد على الاتحاد مثل رومانيا وهنغاريا وحتى دول البلطيق وغيرها. وربما يكون هذا حثّ وتشجيع على بذل المزيد من الجهد لمواكبة التطور في البلدان الاخرى.

أما في البلدان التي تسمى بالنامية (اقتصادياً) او بلدان العالم الثالث (سياسياً)، فانها تبحث قبل كل شيء عن نقاط الافتراق والتمايز وفرص الاحتراب، ضمن عمل ممنهج باهداف تعبوية وغايات سياسية لإلغاء الآخر مهما كلف  الأمر من الارواح والممتلكات والقدرات.

قبل ايام أحيى شعب رواندا الذكرى العشرين لوقوع أبشع إبادة جماعية للبشر في تاريخ القارة الافريقية، حيث قتل حوالي (800) ألف انسان خلال مائة يوم فقط، وذلك داخل حدود البلد الواحد، والسبب في خلاف عرقي – سياسي بين قبلتي "الهوتو" و "توتسي". وربما تكون رواندا مثلاً بارزاً على عبثية الحرب الاهلية والحاجة الماسّة للانسان الى التعايش وعدم المخاطرة بالحاضر والمستقبل من اجل مصالح ضيقة. ونستفيد هنا من مقاطع في كلمة الرئيس الرواندي "بُل كاغامي" الذي تحدث أمام آلاف المحتشدين يوم الذكرى الأليمة: "اذا كانت الإبادة تكشف عن جانب القسوة الصادم للانسان، فان خيارات رواندا تظهر قدرتها على الانبعاث من جديد.."، ثم ذكر بان نصف الشعب ولد بعد تلك المجازر.. وحسب المصادر فان هذا البلد الافريقي تمكن من طيّ صفحة الماضي وتحقيق شيء من التقدم الاقتصادي والمصالحة الوطنية وإلغاء التمايز القبلي والعرقي، حتى بات التصريح بكلمة "توتسي" و "هوتو"، لا تثيران أي مشكلة أو هاجس من ردود فعل رغم الجروح الغائرة في النفوس.

وللحقيقة نقول: ان مظاهر الاقتتال الرهيب في بلادنا الاسلامية، وتحديداً ما يجري العراق، يفسّر حالة التطرّف والتقوقع والانطواء على غايات خاصة ربما لا تتجاوز حدود مدينة صغيرة او حتى جماعة على بقعة صغيرة من الارض. فهذا البلد كان يعبر عنه احد الخبراء الاقتصاديين الدوليين بأنه من شأنه ان يكون من اقوى اقتصاديات العالم، لتوفره على عدد السكان المتناسب مع المساحة، والايدي العاملة والعقول المبدعة مع ثروات هائلة، واليوم نجد أن أول خياراته هي الصدام الطائفي الدموي والحروب الكلامية والتسقيط السياسي السافر. والمفارقة أن الجميع يبحثون بين هذا المستنقع الدامي، عن الامتيازات والمكاسب، وأن لا عزّة وكرامة إلا بسحق الآخر..! بينما الحقائق التاريخية ولغة المنطق تؤكد لنا أن تسليط الضوء على القواسم المشتركة وتحفيز العوامل الانسانية والاخلاقية والدينية، هي التي من شأنها تحقيق العزّة والكرامة، بل ومصالح الجميع في اطار الوطن الواحد، كما فعلت ذلك دول عديدة.

وفي كتابه "المتخلفون مليار مسلم" يشير سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي- قدس سره- الى هذه الحقيقة ويؤكد أن "من أسباب عزّة المسلمين، الأخوة الاسلامية، فان عامل الكثرة اذا اتحد مع عامل الأخوة، انتج العزة، وليس الكثرة وحدها.."، ولعل الشواهد على ذلك كثيرة ومعروفة. يبقى التفاضل في مسيرة البناء الواحد، فهي واضحة ولا لبس فيها، إذ حدد الاسلام الموازين بحيث "لا تَظلمون ولا تُظلمون". ففي الامور الشرعية، تقف "التقوى" في الخط الفاصل بين الصالح والطالح، فالعدالة – مثلاً- شرط في القضاء والشهادة، وهي ايضاً شرطاً في الحكم. كذلك الكفاءة العلمية، وهذا ما نلاحظه في أخذ النبي الأكرم،ن صلى الله عليه وآله، بمشورة سلمان المحمدي في أمر حفر الخندق.

ويستشهد سماحة الامام الراحل بمثال تاريخي من العراق على تأثير التآخي والتلاحم في صنع القوة القاهرة، حيث ينقل قصة ذلك اليهودي القادم من اصفهان والمقيم في بغداد، فيما مضى من الزمن، وكيف ان بساطة حاله وفقره لم يمنع يهود العراق من تزويجه وتشغيله وإسكانه من قبل التجار اليهود في بغداد، لمجرد انه من يهودي مثلهم. يقول سماحته: ".. وهكذا أخذ اليهود على قلّتهم يراعون الأخوة الدينية عندهم عملاً حتى استقووا وتمكنوا من اغتصاب فلسطين وإعلان سيادتهم عليها وعلى المنطقة. بينما نرى المسلمين صاروا شيعاً متناحرة، وأحزاباً متخاذلة، وقوميات متفاخرة، فهذا من قومية عربية، وهذا من قومية كردية، وهذا من قومية فارسية، وهذا من قومية هندية وهكذا.. وكل واحد منا يرى غيره أجنبياً عنه..".

ان الاحتراب الطائفي القائم في العراق، يبدو انه يتقدم دون هوادة مع وجود الكيانات السياسية والمنظمات المجتمعية والمؤسسات الثقافية والدينية الضخمة، أما الأدوات فهي تقدم الجديد بين فترة واخرى..! ففي مقابل العمليات العسكرية في المناطق الغربية ومناطق توتر اخرى، نشهد انتشار السيارات المفخخة والعبوات الناسفة في المدن والاحياء السكنية وهي تحمل رسل الموت والدمار، وفي مقابل حصار مدينة الفلوجة بدعوى الضغط لطرد عناصر "داعش" منها، نسمع، ويسمع العراقيون بغير قليل من المفاجأة تمكّن عناصر هذا التنظيم الارهابي من حرف مجرى نهر عظيم مثل "الفرات" عن مساره، لاغراق مناطق شاسعة تتجحفل فيها القوات الحكومية، ثم اجبارها على  الانسحاب وحلحلة الحصار – حسب الرواية الحكومية-.

ان عدم وجود الماء لدى شريحة من الشعب العراقي، وعدم الأمان لدى شريحة أخرى، يجب أن لا يكون أمراً بديهياً في العراق، مهما كانت الاسباب والخلفيات، اذا ما كانت هنالك – حقاً- ارادة من الحكومة والشعب بتجاوز هذه المحنة والقضاء على هذه الفتنة العمياء. الامر الذي يستدعي الحكمة والتعقّل في اتخاذ القرارات وصياغة المواقف للوصول الى النقطة المركزية التي يجد الجميع انفسهم فيها. ففيها يتحقق التعايش السلمي مع وجود الفوارق في العقيدة والرأي، كما يتحقق التوازن في فرص العيش الكريم. وهذا ليس بالأمر الهيّن، او من قبيل الشعارات ذات النفع للاستهلاك الدعائي. إنما هي بحاجة الى تضحيات كبيرة، ليس في الارواح قطعاً، فهي حاصلة في خضم الفتنة القائمة، بل في المصالح والمكاسب وتقديم التنازلات الشجاعة، ولا ننسى حقيقة انسانية. إن الأمن والاستقرار والعدل والمساواة وكل المفاهيم والقيم الايجابية، يحتاجها كل انسان سويّ وطامح للعيش الكريم له ولأفراد عائلته، وليس من العدل إسقاط بعض الاجندات المخابراتية والمصالح السياسية الدنيئة لهذا الطرف او ذاك، على مجتمع كبير يضم شرائح كبيرة،  وفرص للحياة والتطور.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10/نيسان/2014 - 8/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م