شبكة النبأ: كلما اشتدت الأزمات
وتراكمت العقد فوق بعض، كلما زادت حاجة الناس الى تغيير الواقع نحو
الافضل والخروج من مستنقع الازمات والمشاكل التي تحيط بهم من كل جانب.
وبما ان المشكلة تصدر من الفرد وليس من المجموع، فتتجمع وتتحول الى
مشاكل، فان معظم الآراء ذهبت الى أن يبدأ التغيير من ذات الانسان –
الفرد، لتتجمع المحاولات الصغيرة مثل قطرات المطر، وتتحول الى أنهار
تشق طريقها في الارض.
وفي الواقع الذي نعيشه هنالك آراء في عوامل وقوى تحقق التغيير؛
فهناك من يجد القوة في النشاط الذهني، حيث بامكان العقل الابداع والكشف
عن الحقائق، بينما يرى آخرون أن المال هو المنطلق الأقوى والاكثر
فاعلية في حياة الانسان، وهو القادر اليوم على أن "يقلب الحال الى أحسن
الاحوال.."، فيما آخرون يرون في العامل المعنوي وقوة الايمان وفاعلية
القيم والمفاهيم هي التي من شأنها ان تكون قاعدة قوية ينطلق من خلالها
الانسان للتغيير نحو الاحسن، وأن يقدم النموذج العملي فيما بعد الى
الواقع الخارجي.
وبما ان واقعنا الاجتماعي يرنو الى التغيير الذاتي بما يضمن ازدياد
نسبة المؤمنين بالله وبالقيم الانسانية والاخلاقية، لتكون البداية
الحقيقية للتغيير الشامل، فان العامل المعنوي يبدو هو الاكثر اجتذاباً
للضوء في المباحث العامة في المجتمع، إذ يزداد الحديث عن أزمات خطيرة
مثل "الثقة"، و"العطاء"، و"العدالة"، و"عمل الخير"، وغيرها كثير. فكيف
تتجسد هكذا مفاهيم وقيم داخل المجتمع مع وجود عقبات نفسية مع اسباب
موضوعية تقف أمام الانسان – الفرد؟
من هنا نستفيد من إضاءات سماحة المرجع الديني الكبير آية الله
العظمى السيد صادق الشيرازي – حفظه الله- من خلال كتابه "حلية
الصالحين". عندما يشير الى عناصر أربعة أساس في تكامل الانسان: "الايمان
– اليقين- النية الحسنة- العمل الحسن".
هذه العناصر، ربما تكون لدى الكثير من افراد المجتمع، بيد ان
الاعتماد على عنصر لوحده دون البقية، لن ينفع في أمر التغيير الذاتي.
فالايمان – مثلاً- حالة خاصة يعيشها البعض، ربما تميزه عن الآخرين في
طريقة تعامله، ومواقفه وحتى تفاصيل حياته، فهو يتذكر الله تعالى في كل
حركاته وسكناته، وهذا أمر حسنٌ جداً ومطلوب لاشك.. لكن اذا كان شعار
البعض "الله كريم.."، فانه بالحقيقة يجعل من هذا الايمان قوقعة يعيش
فيها ويتخلص من المؤثرات الخارجية وما يمكن أن يلزمه به الآخرون، حتى
وإن كانت من دواعي البر والخير، والسبب هو عدم اكتمال هذا الايمان
باليقين بأن "الله كريم"، وانه حقاً وصدقاً يهيئ كل شيء ويساعد الانسان
اذا ما بادر الى عمل الخير. وهذا اليقين والاطمئنان القلبي العميق،
بحاجة الى بلورة للاهداف والدوافع، وهي "النية" من وراء العمل، وهل هي
لتحقيق الذات والحصول على بعض المكاسب او فرض آراء وافكار معينة على
الآخرين..؟. ثم لنفترض أننا حققنا النية الحسنة ولا وجود للرياء
والذاتية في الامر، فهل يكفي أننا مؤمنون وموقنون ومن ذوي النوايا
الحسنة، ولا نتبع كل ذلك بالعمل الحسن..؟.
في هذا الكتاب يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أن هذه العناصر
الأربعة تطلب الواحدة الأخرى، ولا مجال للتجزئة، "فالايمان يدعو الى
اليقين، واليقين يدعو الى النية الحسن، والنية الحسنة تدعو الى
العمل.."، وينبه سماحته الى الصعوبة الكبيرة في توفير هذه العناصر في
وقت واحد، حيث يقول: "حيث أن هناك مؤثرات ضخمة وقوية تثقل من حركة
الانسان نحو التكامل تبطئه، اقتضى الامر أن يعمل الانسان كلّ قدراته
وطاقاته من اجل الجمع بين هذه العناصر كلها..".
واذا يتصور البعض أن النية الحسنة أو العمل، ربما تأخذ مسارات اخرى
بعيدة عن الهدف المنشود، اذا كانت لوحدها، فان سماحته يذكرنا بما هو
أشد من ذلك، وهو "اليقين"، فحتى هذه الدرجة المعنوية في الانسان، اذا
كانت لوحدها، ليس فقط لا تفيده بشيء، بل ربما تدفعه الى اتخاذ مواقف
خطيرة لا مجال للعودة عنها. حيث يستشهد بالآية الكريمة: {وجحدوا بها
واستيقنتها انفسهم..}، بمعنى أن هنالك افراد يحملون اليقين بوجود
الحساب والعقاب، وحقانية العدل والحرية والقيم والحقائق، رغم كل ذلك،
ينزلقون الى متاهات بعيدة، بل ان سماحته يذهب الى ابعد من ذلك عندما
يقول: "ان يقين بعض الكافرين في أمر ما ، قد يفوق يقين بعض المؤمنين،
ولكنهم يجحدونه، فلا يعملون به، ومن ثم لاقيمة ليقينهم هذا".
لننظر الى الواقعة التاريخية الفاصلة التي حصلت في دار هانئ بن عروة
في الكوفة، حيث كان عبيد الله بن زياد في زيارة للاخير ليعوده في مرضه،
وكان مسلم بن عقيل خلف الستار، وكان كل شيء مهيئ للانقضاض على ابن
زياد، لكن في لحظة حاسمة تغير الموقف والقرار، وخرج الاخير سالماً،
وعندما سئل مسلم عن عدم تنفيذ الخطة، قال تذكرت حديث رسول الله، صلى
الله عليه وآله: "الايمان قيد الفتك". هذا الايمان واليقين والموقف
الحاسم بعدم تنفيذ الخطة، هو الذي جعل الامام الحسين، عليه السلام،
يكسب حجة بالغة ودامغة على أعدائه ظهر العاشر من المحرم، فاذا كان مسلم
قد قتل ابن زياد، ربما تكون حجة اهل الكوفة هي الطلب بدم الاخير.
واذا راجعنا تاريخنا المعاصر، سنلاحظ اسماء قريبة علينا وهي لعلماء
دين ومفكرين كبار، مثل الشيخ المفيد والشيخ الانصاري والميرزا السيد
محمد حسن الشيرازي، تمكنوا من ان يكونوا مثل مسلم وحبيب بن مظاهر والحر
وغيرهم من الاولياء الصالحين، تركوا بصماتهم على المجتمع والامة، بعد
أن بلغوا هم أولاً، مراقي التكامل النفسي والاخلاقي. وتحولوا الى قدوات
للتغيير الذاتي. |