شبكة النبأ: في عالم بحجم القرية،
يكون فيها تبادل المعلومات والافكار والاخبار بسرعة فائقة، تكون الحاجة
سريعة وقصوى ايضاً الى منهجية تنظم عملية هذا التبادل وتجعلها مفيدة
للانسان، وبناءة لأسس المجتمع والأمة.
واذا كانت وسائل الاعلام يوماً ما، تمثل وسيلة لنقل الافكار
والثقافات، عندما كانت الصحيفة والمجلة ثم الراديو والتلفاز المحلي،
أسياد المشهد الثقافي، فان القنوات الفضائية اليوم، ثم شبكة الانترنت،
تعد نفسها شريكاً وليست وسيلة فقط. وليس أدلّ على ما نذهب اليه،
التأثير الكبير الذي لا يماري فيه أحد للقنوات الفضائية على السلوك
والعادات وعموم المنظومة الثقافية في المجتمع. فلم يعد مفاجئاً أن يتقل
تلميذ في المرحلة الابتدائية صديقه بنفس الطريقة التي شاهدها في
المسلسل التفزيوني، او يتم استنساخ حالات التبرّج والتمظهّر باشكال
مختلفة لدى الفتيات حسبما موجود في المسلسلات او البرامج التلفزيونية.
ورغم عدم وجود ارقام دقيقة عن عدد المسلسلات والبرامج الترفيهية
التي تنتجها الشركات الخاصة بهذا الحقل، ونسبة المتابعين، إلا ان هنالك
شبه إجماع على أن معظم متابعي الشاشة الصغيرة هم من أنصار المسلسلات
التلفزيونية، بعديد توجهاتها، الدرامية او السياسية او التاريخية
وغيرها.
فكيف حصل هذا..؟
يؤكد خبراء على أن الخطوة الاولى نحو كسب مئات الملايين نحو الشاشة
الصغيرة، كانت في لغة المعلومة والإثارة البصرية التي التزمت بها شركات
ومؤسسات اعلامية في الغرب، ثم تمت ترجمة هذه البرامج لتستوردها الدول
العربية والاسلامية. ومن الواضح ان المعنيين لم يسيروا على ساق واحدة،
إنما مضوا في خطوات ثابتة في مخاطبة العقل والعاطفة.. فقد غذوا العقل
بالمعلومات والمعارف في شتى مجالات الحياة، لاسيما تلك التي يحتاجها
يومياً، مثل الصحة والتربية، الى جانب معلومات اخرى عن التاريخ
والجغرافيا والبيئة وغيرها. وفي الوقت نفسه هنالك الضخ للعاطفة
والمشاعر الانسانية، حتى بات المشاهد اليوم، يرى القيم الاخلاقية
والانسانية، مثل الأمانة والشجاعة والتعاون وغيرها، كما يرى الرذائل،
مثل الخيانة والكذب والعنف من خلال البرامج التلفزيونية.
والملاحظ من هذه المنهجية الاعلامية في النوع المرئي، تأثره بـ "المدرسة
الواقعية"، او ربما تكون نسخة مطوّرة من فكرة "تلفزيون الواقع" الذي
ذاع شهرته في العالم، ثم استورده العرب والمسلمون مؤخراً، ومهمته نقل
الصورة الى الشاشة الصغيرة كما هي في واقع الانسان، ربما من باب
الامانة والموضوعية في نقل الافكار وعرض الثقافات. بيد ان هذا في نظر
الخبراء والمتابعين ينطوي على مغالطة واضحة، حيث إن الواقع الموجود،
ربما يكون مثل البحر، يمكن ان نحمل منه الاسماك اللذيذة وايضاً
المخلوقات الغريبة او الاحجار والنفايات.
هذا "الواقع الاعلامي" يدعونا اليوم، اكثر من أي يوم آخر، الى
الارتقاء بمستوى الخطاب الاعلامي – المرئي بالدرجة الاولى - مع
الاحتفاظ بأهمية ومكانة المقروء- والنزول برفق واتزان عند العوائل
والفئات العمرية المختلفة بطرح معلوماتي – ثقافي جديد، وليكن رديفاً
للخطاب الوعظي والارشادي. فاذا كانت بعض البرامج تدعو المتابعين
للاستماع ثم الالتزام بالاحكام والافكار المطروحة، فان المتابع
والمشاهد ايضاً يدعو الآخرين للاستماع الى حاجاته وقضاياه التي ربما
تكون عامة لشريحة واسعة من المجتمع، مثل القضايا الأسرية والاخلاقية
والمعاملات العامة وغيرها، اضافة الى رغبته الغريزية بالتعرّف على ما
يجري في العالم. بما يفيده في حياته اليومية.
فاذا كانت لدى بعض المؤسسات الاعلامية الكبرى في العالم ذات القدرة
الهائلة على الانتاج التلفزيوني، شيئاً من الرصيد الثقافي يفيدها في
كتابة سيناريوهات لمسلسلات ذات سبعين او تسعين حلقة، فان في المكتبة
الثقافية لدينا رصيد هائل من الافكار والنماذج الراقية والقابلة
للتحوّل الى برامج تلفزيونية، سواءً تكون مسلسلات او برامج حوارية او
وثائقية او غير ذلك، بحيث تجد صلة الوصل السريعة والمتطابقة مع واقع
المشاهد.
وهذا يعني، أن نفتح أبواب المكتبات على مصراعيها أمام القنوات
الفضائية ذات الالتزام المبدئي والقيمي التي تتميز عن سائر القنوات
الفضائية الهادفة للجذب بكل الوسائل. والدليل على صحة ما نذهب اليه، ما
كان عليه المستوى الثقافي لدى الاجيال السابقة في مجتمعاتنا، فقد كانوا
يعتمدون في حياتهم والتعامل فيما بينهم أسرياً واجتماعياً واقتصادياً
وايضاً دينياً، وفق المنظومة الثقافية التي كانت تكتسب رصيدها من
المصادر الأصيلة، او ما يسمى بـ "أمهات الكتب". وهذا ما يجعل البعض
يتحدث عن قلّة الازمات والمشاكل في العقود الماضية، مقارنة بما نراه من
التراكم والتصعيد والتعقيد في الوقت الحاضر.
وعندما نتحدث عن الخطاب الثقافي، فنحن بالحقيقة نقف على ثروة هائلة
من السيرة والنهج العائد الى رموز راقية من النموذج الانساني المتفوق،
متمثلاً في المعصومين، عليهم السلام، وايضاً في المقربين منهم
والاولياء الصالحين الذين لديهم بعض المواقف والعبر في حياتهم تصلح لأن
تكون دروساً يحتذى بها للجيل الحاضر، وهذا تحديداً ما نراه جليّاً في
الطرح الاعلامي الآخر الذي ينقل لنا دروساً في الانسانية مستقاة من
روائيين ومفكرين كتبوا وألفوا عن الحب والكراهية والخيانة والصدق
وغيرها من الامور القيمية. علماً أن الأدبيات الغربية وحتى الشرقية في
هذا الجانب، جاءت في وقت متأخر جداً مقارنةً بالأدبيات الاسلامية التي
تعود الى اربعة عشر قرناً مضت، وهي ما تزال طريّة ذات حيوية عالية.
من هنا يمكن القول؛ ان كل فرص النجاح متاحة للقنوات الفضائية لكي
تتحول الى فضائيات ذكية، لقدرتها على الوقوف على الاركان الثلاث للنجاح
وهي: العلمي والفني والاخلاقي، فالطرح العلمي البحت، يعني تقديم وجبة
جامدة غير قابلة للهضم، كما الطرح الفني الجذاب، والاعتماد كليةً على
الإثارة ولغة الجنس والعنف، من شأنه ان يقدم وجبة ساخنة تضع المشاهد،
ربما حتى بعد مغادرته الشاشة الصغيرة، في حالة من الاضطراب والشحن
العاطفي والنفسي، يتسبب تفريغه بكوارث الانتحار والاغتصاب وأشكال
الجرائم. كما الاقتصار على الطرح الاخلاقي من شأنه ان يبعث على الملل
والاشباع في نفس المشاهد.
بينما اذا تم جمع الثلاث في طرح واحد فان الشاشة الصغيرة ستكون
بمنزلة الصديق الأمين للعائلة والانسان، بما تطرحه وتقدمه من افكار ،
بل تكون العلاقة متبادلة، فيجد المشاهد نفسه فيها، كما تقوم هي بدور
المساعد على رفع بعض النتوءات من الواقع الاجتماعي. |