مرة أخرى، فشل الكونجرس الأميركي هذا الأسبوع في التصديق على
المخصصات المتواضعة التي كانت لتدعم تمويل صندوق النقد الدولي وتمنح
الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة قدراً أعظم من المسؤولية هناك. قد
يبدو دعم صندوق النقد الدولي مُلغِزا، ولكنه ينطوي على انعكاسات مهمة
بالنسبة لدور أميركا العالمي ــ ولا تبشر المؤشرات بالخير.
الواقع أن هذه كانت اللحظة الأنسب على الإطلاق لموافقة الكونجرس على
حزمة إصلاح صندوق النقد الدولي: إذ أن هذا الإجراء كان ليساهم بشكل
كبير في زيادة قدرة صندوق النقد الدولي على دعم أوكرانيا، وهو هدف
أميركي رئيسي، بتكاليف أقل كثيراً من البديل المتمثل في ضمان الائتمان
الثنائي الأميركي.
كان هذا الإجراء الفاشل يستلزم فقط نقل التزامات أميركية سابقة من
حساب تكميلي إلى مصدر تمويل أساسي لصندوق النقد الدولي، دون تحميل
دافعي الضرائب أية تكلفة تقريبا. وكانت موافقة الكونجرس لتعني تنفيذ
الصفقة المبرمة في قمة سول لمجموعة العشرين في عام 2010، والتي قضت
بمضاعفة قدرة الصندوق على الإقراض.
وبموجب الاتفاق، الذي رعته إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال
مفاوضات عصيبة، كانت أميركا لتظل الدولة المساهمة الأكبر على الإطلاق
في صندوق النقد الدولي، وتحتفظ بحق الاعتراض (النقض) على القرارات
الكبرى. بيد أن إدارة أوباما، خشية إثارة ردة فعل سلبية، لم تحاول
الحصول على دعم الكونجرس إلا في اللحظة الأخيرة ــ وبأكبر قدر ممكن من
الهدوء والتأني.
قبل بضع سنوات، أبدت الولايات المتحدة افتقاراً مماثلاً إلى
الالتزام بمؤسسة دولية أخرى تهيمن عليها الولايات المتحدة: وهي البنك
الدولي. فبعد الأزمة المالية العالمية، كان البنك يفتقر إلى رأس المال
الكافي لزيادة الإقراض بما يتجاوز مستويات ما قبل الأزمة.
ولكن الولايات المتحدة لم تكن مهتمة بشكل خاص بزيادة حجم البنك
الدولي؛ فبدلاً من استخدام نفوذها الكبير ــ الذي ينعكس في سلطتها في
تعيين رئيس البنك ــ لخلق مؤسسة أكثر قوة وقادرة على الاستجابة لمطالب
جديدة، قررت مجاراة ما أصبح إعادة رسملة متواضعة للبنك. ويشاع أن
الولايات المتحدة والبلدان الحليفة لها في أوروبا رفضت العديد من
الجهود الهادئة التي بذلتها اقتصادات ناشئة رئيسية عديدة لتوفير تمويل
إضافي. وربما كان ذلك الرفض نابعاً من رغبتها في تجنب إضعاف رأسمالها.
ويتناقض هذا بشكل حاد مع تجربة اثنين من مرافق الإقراض الإقليمية
الكبرى: بنك التنمية لبلدان الأميركيتين وبنك التنمية الأفريقي. ففي
حين تحتفظ البلدان الغنية بأغلب أسهم البنك الدولي، تحتفظ البلدان
المقترضة بأغلبية ضئيلة في أسهم (ورئاسة) البنوك الإقليمية. وقد مارس
قادتها ضغوطاً شديدة ــ وناجحة ــ للدفع بزيادات كبيرة في رأس المال.
ويمثل فشل أميركا مؤخراً في تعزيز المؤسسات المالية الدولية
ارتداداً عن النهج الذي اتبعته خلال النصف الأخير من القرن العشرين،
عندما استثمرت بكثافة في تأمينها والحفاظ على فعاليتها. فقد أدرك زعماء
الولايات المتحدة أن هذه المؤسسات مكنت أميركا من ملاحقة تفضيلاتها
الخاصة في السياسة الخارجية ومصالحها التجارية في اقتصاد عالمي أكثر
انفتاحاً واستقرارا.
كانت نهاية الحرب الباردة سبباً في تقويض منطق السياسة الخارجية
وراء الدعم الأميركي، بعد أن أصبح الدعم الاقتصادي للبلدان النامية
يبدو أقل ضرورة كوسيلة لتوسيع الأسواق بفضل زيادة عولمة التجارة
والاستثمار. وعلاوة على ذلك، كانت الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من
سبتمبر/أيلول 2001 سبباً في جعل الجهات الفاعلة غير الحكومية وما يسمى
الدول "الفاشلة" التي تدور على أرضها صراعات طائفية وعرقية مقلقة
مصدراً جديداً للمخاوف الأمنية. وفي هذا السياق، كان من المعقول أن لا
تنظر الولايات المتحدة إلى دعم الاستثمار التقليدي من قِبَل صندوق
النقد الدولي والبنك الدولي باعتباره أولوية عالية.
وأخيرا، فرضت الأزمة المالية العالمية ضغوطاً كبيرة على اقتصاد
الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى تكثيف الضغوط على المشرعين
لانتهاج السياسات الرامية إلى تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي وخلق
فرص العمل. ولتحقيق هذه الغاية، يستثمر البيت الأبيض جهوداً هائلة
ورأسمال سياسي ضخم في صفقتين تجاريتين رئيسيتين ــ شراكة التجارة
والاستثمار عبر الأطلسي والشراكة عبر المحيط الهادئ ــ برغم المعارضة
الداخلية.
ولكن، في حين أسهمت المشاكل الاقتصادية وفرط استقطاب المناخ السياسي
في أميركا بلا أدنى شك في القرار بتفضيل الصفقات التجارية المثيرة
للجدال على المؤسسات المالية الدولية التي أنشأتها الولايات المتحدة
ورعتها، فإن تغيرات جيوسياسية جوهرية هي التي تحرك التحول السياسي حقا.
باختصار، أصبحت الولايات المتحدة المتضائلة دولياً كارهة للتخلي عن
هيمنتها على المؤسسات العالمية، غير أنها غير راغبة في تحمل التكاليف
المالية والسياسية المرتبطة بها.
وعلى النقيض من ذلك، يعمل ثِقَل سوق الولايات المتحدة الثابتة على
تضخيم قوة المساومة التي تتمتع بها أميركا في اتفاقيات التجارة
المتعددة الأطراف، وهو ما يخدم أيضاً المصالح التجارية المباشرة
للبلاد. والواقع أن مثل هذه الصفقات تقدم الوعد بأسواق تصدير جديدة،
ووظائف "جيدة"، وقواعد تحافظ على المزايا التنافسية التي تتمتع بها
الولايات المتحدة. وهي من ناحية أخرى قد تساعد في احتواء قوة الصين
الاقتصادية ونفوذها الاستراتيجي في آسيا.
وباعتبارها الجهة المصدرة للعملة الاحتياطية المهيمنة على مستوى
العالم، فإن الولايات المتحدة قادرة على تدبر أمورها من دون مساعدة من
صندوق النقد الدولي في الأمد القريب، باستخدام بنك الاحتياطي الفيدرالي
لتوفير السيولة للبلدان التي لديها معها مصالح سياسية أساسية، كما فعلت
بعد أزمة عام 2008. وتساعد قروض البنك الدولي البلدان ذات الدخل
المتوسط التي تتنافس بشكل متزايد مع الولايات المتحدة في التجارة
العالمية، في حين تزيد الطلب على رأس المال الخاص ــ الأميركي.
إن الولايات المتحدة الآن أشبه بأب في سن الشيخوخة، لم يعد راغباً
في استثمار الكثير في تجارة العائلة، ولكنه يظل كارها للتنازل عن
السيطرة لأبنائه الذي أصبحوا ناضجين على نحو متزايد. فيبحث الأبناء
الناقمون الضجرون عن الفرص في مكان آخر ــ وهو ما يضر بتجارة العائلة.
والصين لديها ما يقرب من عشرين ترتيباً لمبادلة العملة، والتي تخدم
كبديل لدعم السيولة من قِبَل صندوق النقد الدولي. كما وقعت الصين للتو
على صفقة مبادلة بقيمة 50 مليار دولار أميركي مع اليابان. وبمرور
الوقت، سوف تؤدي هذه الترتيبات إلى تآكل دور الدولار الأميركي كعملة
احتياطية عالمية رئيسية.
وعلاوة على ذلك، تخطط الاقتصادات الناشئة الكبرى ــ البرازيل وروسيا
والهند والسين وجنوب أفريقيا ــ لإنشاء بنك تنمية خاص بها، والآن تعتمد
بلدان أفريقية عديدة على الصين لتمويل استثمارات البنية الأساسية. وفي
أميركا اللاتينية، يقدم بنك تنمية الأنديز لبلدانه الأعضاء قروضاً
لتمويل مشاريع البنية الأساسية أكثر من تلك التي يقدمها لها البنك
الدولي ــ بتكلفة أعلى ولكن بقدر أقل من المشاحنات. وسوف يؤدي تضاؤل
دور البنك الدولي في نهاية المطاف إلى تقويض قدرة أميركا على الترويج
لوجهة نظرها التي تزعم أن التنمية وظيفة تختص بالقيام بها السوق
المفتوحة وتعززها المساءلة الديمقراطية.
إن وجود المؤسسات المالية العالمية القوية والفعالة يصب في مصلحة
أميركا بكل تأكيد. ولكن في غياب الزعامة الأميركية، سوف يتآكل الدور
العالمي الذي يلعبه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تدريجيا ــ وسوف
تتآكل جدوى هاتين المؤسستين للولايات المتحدة.
* نانسي بيردسال، الرئيسة المؤسسة لمركز
التنمية العالمية. دفيش كابور، أستاذ مشارك في العلوم السياسية في
جامعة ولاية بنسلفانيا
http://www.project-syndicate.org/c |