ما بين مسقط رأسه في ناحية النصر إحدى نواحي الناصرية وبين تاريخ
اعتقاله من أمام دكّانه الصغير في بغداد بأمر السلطة الدكتاتورية
الحاكمة آنذاك، كان عزيز مستشرفا حلمه بموت مهيب يعيد للثقافة
العراقيّة الحديثة هيبتها، ويطوّق عنق المثقف بإكليل المسؤوليّة الذي
أراد النظام المقبور انتزاعه منه بكلّ الوسائل والسبل.
ظلّ عزيز يحلم بالشهادة بعدما يئس من التغيير، وكان يتوق إلى أن
يُزّف عريسا إلى جنان الخلود بعدما مادت الدنيا بالظلم والظالمين، فهو
القائل في أحد كتبه الذي يعود إلى منتصف ثمانينيّات القرن الماضي: (إنّ
من يستشهد من أجل تصوراته قبل ان يجرّب بناءها على أرض الواقع، فهو
مثالي بحكم المثل التي يؤمن بها، وهي أفكار غير مجرّبة بعد، فعدد
الشهداء الذين بذلوا حياتهم من أجل قضية في الذهن أكبر بكثير من عدد
الشهداء الذين بذلوا حياتهم دفاعاً عن تجربة سياسيّة متأسّسة فعلاً).
ولأنّه مبدع حقيقي فقد شغفه حب المعرفة منذ نعومة أظفاره التي
أمضاها في بيت طيني متواضع لم تحتفظ ذاكرته عنه مثلما احتفظت بذكرى
الفاجعة الأليمة تنتابه كلّما حلّ عاشوراء، ولم تبق له الأيام بعد
رحيله إلى العاصمة بغداد إلّا ملامح يحفظها عن ظهر القلب لصورة معلّقة
على حائط بيتهم الطيني القديم، هي صورة الإمام علي - عليه السلام -
التقليدية المعروفة بألوانها الساخنة، وبالمهابة المميزة لوجهه الكريم
تحيط بها هالة نور، وكانت هذه الصورة حاضرة في الذهن والبيت القديم معا،
مثل حضور الأب والأخ والأخت، ولا يمكن تخيُّل وجوده دون وجود هذه
الصورة وصاحبها العظيم، كما يثبت ذلك في مقدمة كتابه (علي سلطة الحق).
ولأنّه ابن الجنوب، ابن الآلام والمواجع وابن الذاكرة الموطوءة
بالقهر والحرمان فإن تجربته الانتمائية والمكانية عمَّقت حسَّه بالقهر
والظُلم، وبضراوة الصراع بين الخير والشر وبحتميّة هذا الصراع ما دام
هناك المخلصون بمقابل الأشرار، ولذا ظلّ هذا الجنوبيّ العريق مدفوعا
إلى التمرّد والرفض والمجابهة حتى آخر الرمق.
ومثلما كان عزيز السيد جاسم نهما في القراءة والاطلاع بشكل خرافي،
كما يقول هو عن نفسه، وكما يُثبت قوله ويؤكّده من عرَفه من الأهل
والأصدقاء، فقد كان الرجل كاتبا مُكثرا كذلك، إذ طرق صنوف المعرفة
وضروبها المختلفة، وراح يتنقّل بين وديانها العديدة، فمن الاهتمام
بالقضايا السياسيّة إلى العناية بالقضايا الفكرية والاجتماعية ذات
الارتباط الوثيق بقضايا المعيشة اليومية، ومن نقد الاستبداد إلى نقد
مناهج التعليم، ومن الفن الروائي والقصصي إلى نقد الشعر ونقد الاعمال
القصصيّة والروائيّة العربيّة والعالميّة، ومن الكتابة في الوعي الصحفي
إلى المقالات الفلسفيّة العميقة، ومن المناقشة في قضايا الثورة
والاشتراكيّة والفكر الماركسي إلى الكتابة عن التصوّف الإسلامي ومدارس
الصوفيّة، وعن نماذج الإسلام المبكّر، وتطول القائمة وتتنوع وتتمدّد
لتتجاوز (الخمسين كتابا) دون أن تبتعد عن جمال الصياغة اللغويّة وفرادة
الاسلوب وتمّيزه!
لكن أخطر هذه الكتب وأقربها إلى نفسه هو كتابه: (علي سلطة الحق)
الذي كان بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير، فبعد ظهوره الأول مطبوعا
في بيروت عام 1988م، وبالرغم من ممانعة النظام لطباعته في دور النشر
العراقيّة والعربيّة، أثار الكتاب ردود فعل كثيرة، إذ رأى فيه البعض
فعلَ تطهير أراد به عزيز إزاحة الأدران التي علقت بروحه من خلال تعاطيه
السابق مع الفكر القومي الذي استهوى كثيرا من الأفئدة في ستينيّات
القرن الماضي، لاقترانه بالبعد الاجتماعي ولارتباطه بحركات التحرّر،
وبمناهضة الاستبداد الاستعماري ومحاولته كبح جماح الشعوب وتطلعاتها نحو
الحرية، في حين رأى آخرون الكتابَ المذكور أصدقَ تجارب السيد جاسم
وأصعبّها، وعلى الرغم من أنّه لم يجنِ ثمار صداه حيّاً فأنّه نال به
جائزة الشهادة والخلود في آن واحد.
أمّا السلطة الغاشمة فقد رأت في (علي سلطة الحقّ) غمزاً شديداً
وضربة مقصودة لها، فعزيز يتشوّف الإمام - عليه السلام - يبني سلطة
عادلة قوامها الإرادة الحقيقيّة للجماهير المؤمنة، أي أنّه كان يصنعُ
سلطة متحرّرة من أدواتها القمعيّة المستعليّة على الأمة، كما أنه يرى
سلطة الإمام مثالا حيّا لسلطة المجتمع الفعلية، لأنّها من الشعب والى
الشعب، على العكس من السلطة المداهنة المراوغة التي تظهر على نحو وتبطن
نحواً آخر مغايرا، فالمُلك في الأولى مُلْك الناس والقوانين تخدم
الجميع الذين يصوغون أمور دنياهم ودولتهم بحريّة تامة بعيدا عن التعسف
والقيود.
حاجة الأمة إلى منقذ أو نظام سياسي يُصلح أمرها ويقودها إلى الخير
والصلاح والحق بعدما آلت إليه الأوطان من خراب ودمار على أيدي دعاة
التحرّر والمساواة كان أقوى دوافع عزيز السيد جاسم لإيصال تلميحاته
وأفكاره للناس من خلال أطروحاته الفكريّة في كتابه المشار إليه، وهو ما
بات مستمسكاً كافيا للنظام الذي تربّص بالشرفاء والطيبين والأحرار
متّهما إياهم بتهمّ هم أبعد ما يكونون عنها.
هكذا رحل مفكرنا غير آبه أو مهتمٍّ لمصيره الشخصي قدر اهتمامه بمصير
الوطن والناس الذين أحبّهم وأخلَص في محبّتهم، مختارا أن يقول كلمته
الأخيرة بمحض إرادته هو، ولو كان ثمنُ اختياره حوضًا من التيزاب سيلتهم
جسده النحيف، مضيفا بموقفه هذا لقبا جديدا إلى ألقابه الكثيرة، لكنه
سيبقى أعزّ الألقاب على محبّيه وعلى عشاق كتاباته. |