شبكة النبأ: في مسيرة التطور والنمو
التي يشهدها العالم في المجالات كافة، حصلت هنالك قفزات بل وثورات في
المجال الاقتصادي والسياسي، فوجدنا مظاهر التنمية في الزراعة والصناعة
والانتاج، كما وجدنا مظاهر التطور في الانظمة السياسية وتحكيم
"الديمقراطية" والعمل على تطبيق مفاهيم من قبيل "حقوق الانسان" و "حرية
العقيدة والتعبير" وغيرها. وبموازاة ذلك جرت تجارب على الجانب الانساني
حتى يكون الانسان – المعني الأول والاخير في هذه المسيرة- ذو أهلية على
مواكبة التطورات الحاصلة، فكان الاهتمام بالبناء النفسي – المعنوي،
وهذا ما نلاحظه من خلال تصفحنا لتجارب النجاح في الدول المتقدمة،
فهنالك ثمة اهتمام بمفاهيم مثل الصدق وحب الآخرين والالتزام بالقانون
والنظام العام، بيد أن هذا وغيره لا علاقة له بالنفس الانسانية، إنما
هي تلبي حاجات الانسان في الواقع الخارجي، لذا تفاجأنا الاخبار دائماً
بحالات جريمة مروعة او انهيارات مالية بإبعاد عالمية، وتزوير للحقائق
السياسية، ما من شأنه ان يزعزع ثقة العالم بقوة ومتانة الحضارة الغربية
ومصداقيتها في التقدم وأنها النموذج الأكمل لسائر دول العالم.
وهذا يدعونا بشدة الى إعادة النظر في أولويات التقدم والنمو في
بلادنا، فمعظم المساعي والجهود تتجه نحو استنساخ التجارب العلمية
والتقنية وحتى اسلوب العيش من البلاد الغربية، حتى يُخيل الى البعض إن
بناء الابراج العالية وناطحات السحاب، هي المؤشر الدال على التقدم،
وليس بناء النفس الانسانية، وهذا بحد ذاته مثير للتساؤل حقاً مع الحضور
البارز والمكثف للنفس في أدبياتنا ونصوصنا الدينية، و ربما معرفة
معظمنا بوجود "النفس الأمارة بالسوء".
من هنا نجد سماحة الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره-
يؤكد على أهمية بناء النفس وتهذيبها في عملية التقدم والتطور، فهو يشبه
النفس كالمعمل الذي يطبع نوعية المنتوج الذي يصدره، بمعنى أن النفس
الانسانية هي الدافع لاتخاذ الانسان مواقفه واعماله في الحياة، وليس
أمر آخر. فاذا نرى ظواهر شاذة مثل الفساد الاداري وانتهاك حرمة الانسان
وعدم احترام الوقت وغيرها، هل نرجع السبب الى المستوى العلمي او النشاط
الذهني او المهارة والابداع..؟!.
وحتى لا نجانب الحقيقة، فان الاهتمام ببناء النفس أو حسب التعبير
المتعارف "الضمير والوجدان"، ليس بالمستوى المطلوب الموازي للطموحات
العالية مع القدرات الكبيرة في بلادنا، حتى بات هناك شبه اعتراف في
اوساطنا بغياب الضمير والوجدان بسبب انحراف النفس الى توجهات ومسارات
تناقض القيم الاخلاقية والانسانية.
نعم؛ هنالك بعض الاهتمام بالبناء الذهني لاكتساب العلوم والمعارف
والمهارات والفنون وحتى التربية البدنية، وكل ذلك حسنٌ بالطبع، لكن
ماذا الانتاج الذي يصدر من العلم والفن والقدرة البدنية وغيرها.. ومن
الذي يقوّمها ويوجهها الوجهة الصحيحة والبناءة بحيث يكون المجتمع
والناس بأجمعهم مصونين من التصدّع الاخلاقي والانهيار النفسي في الآجل
والعاجل؟.
الفقيه الشيرازي، يسمو بنا الى حيث البناء الحقيقي والعميق الجذور،
وليس البناء السطحي القابل للتغيير والزوال، لذا يرصد في هذا المسار
ثلاث خطوات:
الخطوة الاولى: اليقظة
وهي تعني الانتباه والحذر، وعدم الاطمئنان للواقع الموجود، إذ يؤكد
العلماء المختصون بأن اتخاذ الانسان جانب الحيطة والحذر من نفسه التي
بين جنبيه، تجعله مصوناً الى درجة كبيرة من الانزلاق في أخطاء عديدة،
ربما يكون بعضها كارثية لا تعوض. والى ذلك يوجه القرآن الكريم الى هذه
المسألة وضرورة الالتزام بها، خدمة للانسان نفسه. تقول الآية الكريمة
عن بعض صفات أهل الجنة: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا
مُشْفِقِينَ}، بمعنى أنهم كانوا يعيشون حالة الخوف والحذر من أنفسهم.
وهذا يشمل جميع افراد المجتمع بكل درجاتهم الايمانية. لذا نجد الخطر
محدقٌ بمن يدّعي الايمان الكامل والتقوى والورع، وأنه "لا خوف عليه...".
ويؤكد العلماء على أن الاطئمنان واستسهال المواقف أزاء هذه القضية أو
تلك، أو مع هذا الانسان أو ذاك.
الخطوة الثانية: البرنامج العلمي
والعلم هنا، يتميز عما يتم اكتسابه بالطريقة الذهنية ومن خلال
التجربة، فهو العلم المرتبط بالسماء، ويسميه الفقيه الراحل بـ "العلم
الإلهي"، ثم ان العلم ذو تأثير كبير في النفس وفي الحالات النفسية، لأن
"العلم والمعرفة مبدأ من مبادئ الحالات النفسية إذ يشير القرآن الكريم
إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}". فالعلوم المعارف التي تكسب صاحبه الخشية من
الله تعالى، هو الذي يحصن النفس من المهاوي والمنزلقات، وتُعرف جملة
هذه العلوم بـ "العلوم الدينية".
الخطوة الثالثة: البرنامج العملي
هنالك برامج عملية عديدة بالامكان تنظيمها في الحياة للحصول على
افضل نتيجة لنفس نقية منزّهة. فلماذا نبحث عن المفاهيم الاخلاقية
والقيم الانسانية عند الأدباء والمفكرين من مدارس أخرى لاستلهام العبر
والتجارب في مجال البناء الانساني، بينما هنالك قدوات رائعة ونماذج
راقية من علماءنا ومفكرينا، ممن ارتقوا مراقي عفّة النفس أمام المغريات
والمرديات، وقد اكتسبوها من المعين الذي لا ينضب، وهم أهل البيت، عليهم
السلام.
ولعل من أبرز الحالات المطلوب فيها الكبح والسيطرة، الغضب
والانفعال، وما أكثر المواقف التي نمر بها في حياتنا ونكون فيها ضحية
استفزاز او مواقف منفعل يلبي غرور الذات لكنه يصيب النفس بالكبر
والأنانية. ولمن يريد الاستزادة من الحالات المطلوب كبحها لتنظيم
برنامج عملي في هذا المجال، فهناك الكثير من الاحاديث الشريفة وهي
مشحونة بوصايا اخلاقية من شأنها تربية النفس وتشذيبها وتقويمها. حتى
يصل الامر الى نبذ حالة "الأمر" لتلبية الحاجة، فمن المستحسن ان يقوم
الانسان – قدر الامكان- بانجاز اعماله بنفسه لا أن يكلف أحد، وفي
الاحاديث، أن من علامات أهل الجنة أن لا يكلفوا أحداً شيئاً.. وهذا لا
يقتصر على المعصوم، فقد طبق هذه الحالة علماء كبار لهم منزلتهم
الاجتماعية والعلمية، عاشوا بجوارنا الى فترة قليلة من الزمن.
بالمحصلة؛ لن يستقيم لنا طريق نحو التقدم والتطور والنمو، ما لم
يواكب البناء العلمي والثقافي، بناءً نفسياً – معنوياً. وهذا ما يدعو
اليه الفقيه الشيرازي في معظم احاديثه ومؤلفاته، حيث يؤكد على أهمية
العلم والمعرفة وتطوير المهارات الفردية وتلبية الحاجات الانسانية،
ويقرن معها حاجة النفس الى التقويم بما يؤدي الى توجيه كل تلك الحاجات
والمنجزات في طريق البناء الحضاري، فهنالك مفاهيم انسانية تبدو للوهلة
الأولى انها ايجابية فيندفع البعض نحو بثقله ساعياً لتحقيق الاكثر
فيها، مثل الحوار او التنافس او الثقة والاعتداد بالنفس والتعليم
والنشر وغيرها، وهي مفردات تدخل في صميم البناء والتنمية، لكن ربما
تتحول على حين غفلة الى عوامل للتمزق والتشظي والانهيار – لا سمح الله-
. |