عالم الخبراء والطريق الى القرارات الناجحة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: معروف أن الحكومات في الدول المتقدمة، إنما تحقق نجاحات في السياسة والاقتصاد، من خلال أطقم – وليس طاقم واحد- من الخبراء والمستشارين الذين يمدون أصحاب القرار متمثلاً برئيس حكومة في نظام برلماني، او رئيس جمهورية في نظام رئاسي، بالمشورة الخبروية – إن صحّ التعبير- ، فقبل أن يتخذ قراراً ما، يجد على طاولته حزمة من المعلومات المفصّلة تجعله امام خيارات متعددة، وكلما كانت الصورة متكاملة امامه، كانت قراراته اكثر صوابية وقرباً من الواقع. طبعاً؛ هذا ينسحب على سائر المسؤولين الكبار في الدولة، مثل القضاة في المحاكم والوزراء والمدراء والنواب في البرلمان.

وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الخبرة ودورها في الحياة"، حيث يبين حاجة "الدول إلى خبراء في مجال معين، لا سيما دول العالم الثالث، أو ما يطلق عليها "الدول النامية"، حيث تستعين في تطوير نفسها، أو تنظيم إداراتها، أو بعض وزاراتها، ببعض الخبراء الدوليين..".

بعد اصبحت هذه المسألة من البديهيات في الانظمة السياسية في العالم، بما فيه "عالمنا الثالث"، فان التنكّر للخبراء والمستشارين يُعد مثلبة ونقطة سلبية تدين صاحبها، لذا تحاول الانظمة الحديثة العهد بالديمقراطية تقليد الآخرين بتعيين مستشارين للرئيس او الوزير. لكن هل يكفي ان يسمع الناس بوجود طاقم من المستشارين لرئيس الحكومة؟ أم يجب ان يكون هنالك تخصص وتحديد للخبرات التي يفترض ان يحملها هؤلاء ومنها يمدون الرئيس بالمعلومات الصحيحة؟، لذا نجد سماحة الامام الراحل يصف الخبير بانه هو ذلك "الشخص الذي يتميز بمستوى عالٍ من الخبرة في مجال محدد من مجالات المعرفة حيث يكلّف عادة بإعداد دراسة، أو تقديم مشورة لبعض الحكومات".

من هنا نلاحظ التعدد في اختصاصات المستشارين في بعض البلاد الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، حيث هنالك طاقم من المستشارين في مختلف المجالات، يتقدمهم مستشار الأمن القومي، حيث يعطونه الاهمية القصوى، نظراً للمنهج الخاص في السياسة الامريكية، يعطي "الامن القومي" أهمية خاصة على سائر الامور. لذا نجد مستشار الامن القومي الامريكي يتم اختياره من أكفأ وأبرز خريجي الجامعات المرموقة في امريكا، ويكون هذا المستشار احياناً في المرتبة الثالثة في تسلسل المسؤولين في الدولة، بعد الرئيس ووزير الخارجية، لانه معني بتحقيق الأمن لأمريكا انطلاقاً من العالم الخارجي لينعكس على الوضع الداخلي، حسب النظرية الامريكية المعروفة.

وهذا ما يجب ان تلتفت اليه حكوماتنا في البحث عن مصادر الخبرة، في الجامعات أو الحوزات العلمية او المؤسسات البحثية وحتى الثقافية التي ربما يكون لها تراكم من خبرات وتجارب علمية وعملية عن مختلف شؤون الحياة بما يفيد المسؤول في الدول لاتخاذ القرار الصحيح.

مواصفات الخبير

بما أن "الخبرة" بالاساس هي نتاج العلم المكتسب والتجربة العملية، فان الجدير بنا البحث عن افضل المواصفات لدى "الخبير" ليحقق لنا افضل النتائج في مراكز اتخاذ القرار بما يمس مصير الشعب والامة. نعم؛ هنالك شريحة من الاكاديميين واساتذة الجامعة في تخصصات عديدة، وهذا المستوى العلمي الراقي ينبغي ان يكون ملمّاً بجوانب الحياة كافة، حتى تخرج القرارات او الاجراءات، متكاملة وشمولية بنسبة عالية، وهذا ما نطلق عليه في حل المشاكل والازمات بـ"الحلول الجذرية" وليست الترقيعية.

لذا نلاحظ سماحة الامام الشيرازي يشدد على الأفق الواسع للخبير المتعلّم الذي يتجاوز حدود المصالح الدنيوية الى الاسهام في ضمان العواقب الحسنة للانسان، وهذا ما نلاحظه في شريحة واسعة من المستشارين في بلادنا الذين هم على الاغلب من خريجي الجامعات والمراكز الاكاديمية، حيث يصبّون اهتمامهم على مصالح النظام السياسي القائم، وليس على مصير الانسان ومستقبله. لذا نجد الامام الشيرازي، يقول: "إذا كان انطلاق الخبرة من العلم الذي لا يتعدى الدنيا أبداً، فسوف تكون تجربة فقيرة ومضطربة تحتاج إلى قوة تمسكها وتنير لها الطريق، وعلى هذا الأساس عندما نتصل بأهل الخبرة لكي نحصل منهم على علم الأبدان وغيرها، يلزم أن نتصل بأصحاب الخبرة الواسعة الحقيقية، لا الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ولا الذين تكون الدنيا منتهى أفكارهم، بل علينا أن نتصل بالرجال المفكرين الذين تتصل أفكارهم بالماضي والحاضر والمستقبل، بشقيه الدنيوي والأخروي".

وبما ان الحياة تتشعب الى حقول وجوانب عديدة، فان الخبرات ايضاً يجب ان تكون بالسعة والشمولية والانفتاح بحيث تعطي رؤية متكاملة لأي قضية او أزمة يُراد حلها، وليس أدل على ذلك التداخل الحاصل في الاختصاصات عندما تكون على ارض الواقع، فالقانون – مثلاً- يدرس كعلم خاص في الجامعات، كذلك الاقتصاد، وعندما نريد تطبيق القانون على ارض الواقع نجد اننا بحاجة ماسّة الى موضوع "التربية"، وأن يكون الانسان مستعداً لتطبيق القانون. فهذا القانون ربما يلتقي او يفترق مع جملة من التقاليد والعادات وحتى الانتماء المذهبي للناس. كذلك الحال بالنسبة للاقتصاد وحقوله المتعددة، فانه بحاجة الى موضوع "الاخلاق" والقيم الانسانية التي يجب ان يكون لها حضور فاعل في عملية التوزيع العادل للثروة والمساواة في فرص العمل وفي مسألة التكافل والتعاون.

من هنا اقترح احد المفكرين أن يكون في الدولة العراقية مؤسسة دستورية خاصة تعني بالاشراف على تطبيق الدستور بما لا يتعارض مع الشريعة الاسلامية، كأن يكون بأسم "مجلس خبراء الدستور". يتشكل من علماء دين وفقهاء قانون، فكما ان السياسة لها مدخلية في القضايا التنفيذية للدولة، فان للدين مدخلية في قضايا الفرد والمجتمع، بما يشمل جميع جوانب الحياة. بل ان طابع المجتمع وطريقة تعاطيه مع الامور، يترك تأثيراً مباشراً على أداء الحكومة، او بالاحرى تكون الحكومة مرآة تعكس واقع هذا المجتمع وحاجاته واهدافه.

في هذه الحالة فان دوائر الدولة، من محاكم وأمن وخدمات وتخطيط وحتى السياسة الخارجية، لن تنشغل باحتمالات التقاطع مع الهوية الدينية والحضارية للشعب، إنما تفكر بآفاق التطور والبحث عن فرص التقدم، وتقلل من نسبة الخطأ والانحراف في مجمل القرارات الحكومية.

النبي الأكرم (ص) والبدء من حيث انتهى الآخرون

يؤيد سماحة الامام الشيرازي في مؤلفه الى مبدأ "البدء من حيث انتهى الآخرون"، وهي مقولة طالما تتردد على الألسن، ويقرنها سماحته بالنظر الى اللباب والجوهر في الخبرات التي يُراد الاستفادة منها، فهو – قدس سره- يدعو "مجالسة أصحاب الخبرة للاكتساب من علمهم وتجاربهم"، وينقل عن "لقمان الحكيم"، وهو يوصي ابنه فيقول: "يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتك؛ فإن الله عزوجل يحيي القلوب بنور الحكمة كما يُحيي الأرض بوابل السماء".

وهذا يدعونا للالتفات الى مسألة الجانب النظري في الخبرات الموجودة، فربما تكون الخبرات عبارة عن مذكرات او احاديث تقال عن زمن ماضٍ، لذا يفترض بالمعنيين الاهتمام بالدرجة الاولى الى الجانب العملي والتطبيق على ارض الواقع. هنا تأتي دعوة الامام الراحل الى أن "يلازم الإنسان ويرافق العالم الخبير المطلع، صاحب التجارب والعلم الوافر؛ لكي يتعلّم منه مباشرة السلوك العملي، لأن المطالعة والمعرفة لوحدها لا تكفي ما لم تقترن بالعمل والسلوك".

وعليه؛ فان منتهى مبلغ الآخرين في خبراتهم ينبغي أن يكون "على أُسس منتظمة وصحيحة تعطي نتائج مثمرة"، وهو الذي يعده سماحته باحد اهم شروط الاستفادة الصحيحة من خبرات الماضين، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: "أعقل الناس من أطاع العقلاء". كما قال، عليه السلام: "إنما البصير من سمع ففكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر".

ويورد سماحته المثال البارز للاستفادة من الخبرة الصحيحة، وهو رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأهل البيت، عليهم السلام، وحادثة حفر الخندق في "معركة الخندق" معروفة في التاريخ، عندما أخذ النبي بتجربة عملية من سلمان المحمدي، وهو بدوره اخذها مما كان مجرباً في بلاد فارس لمواجهة التهديدات الخارجية.

من هنا؛ تبدو الحاجة ماسّة للغاية، الى استقطاب الخبرات والخبراء، وتوجيههم في عملية البناء والاعمار، وعدم إلغاء الآخرين بما يحملون من تجارب وخبرات مروا بها خلال حياتهم. لان هذا من شأنه ان يزيدنا تقهقراً وتخلفاً على ما نحن عليه، وربما يكون المآل أسوء مما نحن فيه الآن، نظراً الى سرعة التحولات العلمية والثقافية والسياسية في العالم، بما يتطلب سرعة اتخاذ القرار الصحيح والمناسب، وإلا تكون الحاجة فوراً على قرارات وخبرات الآخرين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 30/آذار/2014 - 27/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م