التجربة الأشهر في "فبركة" الذرائع وتخليقها بهدف شن الحروب وإشعال
الحرائق، جاءتنا من اثنتين من أكبر وأعرق عواصم الديمقراطية في العالم:
واشنطن ولندن، وكتب السير والمذكرات التي تناولت تلك الحقبة، تحدثت
بإسهاب عن عمليات "الفبركة" و"التصنيع" التي انخرطت فيها العاصمتان
الحليفتان، من الرأس حتى أخمص القدمين، وبصورة بددت الكثير من القيم
والأخلاق والمصداقية، حيث لم تتورع إدارة جورج بوش الابن، عن توريط
وزير خارجيتها الجنرال كولن بأول، ومن على أرفع منبر دولي: مجلس الأمن،
لسرد وقائع وبيانات، ثبت بالملموس، أنها كاذبة، ومن صنع الاستخبارات
الأمريكية، وبهدف تسويق قرار الحرب وتسويغه، وبسلوك أقرب لسلوك
العصابات وحكومات العالم الثالث المافيوزية... وما فعلته واشنطن، فعلته
لندن بصورة أقل احترافاً ومهنية، وتحقيقات مجلس العموم البريطاني، كشفت
الكثير من تلك القصص المروّعة.
شنت الدولتان، ومن خلفهما حلف ثلاثيني الحرب على العراق في العام
2003، جابت فرق التفتيش العراق طولاً وعرضاً، عمقاً وارتفاعاً، لم تعثر
على أثر لأسلحة الدمار الشامل... نبّشت في أراشيف السياسة والأمن
والمخابرات التي تركها نظام الرئيس صدام حسين، فلم تجد أثراً لمزاعمها
عن "صلات بالقاعدة" احتفظ بها النظام السابق... سقطت الأكاذيب ومعها
منظومة القيم والأخلاق والصدقية، وسقط مئات ألوف القتلى والجرحى
والمشردين، وعاد العراق نصف قرن للوراء... لم يتلق جورج بوش كتاب لوم
أو تنبيه، وكوفئ طوني بلير بتعيينه موفداً للرباعية الدولية لسلام
الشرق الأوسط، ولم تصدر كلمة اعتذار واحدة للشعب العراقي وأسر الضحايا...
فعن أية قيم ومبادئ يتحدثون؟!
مناسبة هذه الحديث، ما نشر في تركيا خلال الساعات الأربع والعشرين
الفائتة، وفي إطار مسلسل الفضائح الذي يطارد رئيس الوزراء التركي
ورجالات حكومته وأجهزته وحزبه الحاكم، وبصورة تنافس من حيث طول حلقات
هذا المسلسل وجاذبيتها، كل ما أنتجته الدراما التركية، ولاقى رواجاً
هائلاً في سوق الإعلام والتلفزيون العربيين... كبار القادة الأمنيين
والسياسيين والعسكريين، يجتمعون في مكتب وزير الخارجية، لتخليق الذرائع
وفبركتها، ومرة أخرى، بهدف تسويق قرار الحرب على سوريا وتسويغه، بهدف
التغطية والتعمية على أبشع النوايا العدوانية ضد دولة جارة، وبخلاف
القانون الدولي و"حسن الجوار" و"أكذوبة صفر مشاكل".
لا بأس، سنرسل من رجالات استخباراتنا من يقوم بإطلاق الصواريخ
باتجاهنا، فنكون بذلك قد وفرنا البضاعة، وصنعنا ما نحتاج إليه من حجج
وذرائع، تمهد لإرسال الجيش إلى العمق السوري، تارة لمواجهة الجيش
السوري وأخرى بحجة ملاحقة "داعش" وثلاثة لحماية مقام "سليمان شاه"، إلى
غير ما هنالك من حجج واهية، تخفي أبشع النوايا وأكثر الأطماع التوسعي
عدوانية.
لم يتصد أي مسؤول تركي لنفي الواقعة كما جرت العادة، جميعهم تحدثوا
بلسان غاضب واحد، وضد واقعة "التسريب"، لكأن المشكلة في وصول المعلومة
إلى الرأي العام التركي، وليس في مضمونها، الذي يشف عن طابع "مافيوي"
و"عصاباتي" للإدارة التركية للأزمة السورية... لا أحد يعتذر أو ينفي
ويكذب... الأنظار تتجه إلى العدو الجديد لأردوغان "يوتيوب" بعد "توتير"
بالأمس، وربما "فيسبوك" في الغد... تماماً مثلما يفعل الطغاة والحكام
الجنرالات الذين لا يكف أردوغان على هجائهم صبح مساء.
والحقيقة أن تزامن الكشف عن هذه الوقائع، وغيرها كثير من قصص
الابتزاز الجنسي التي أمر أردوغان شخصياً بنشرها على الملأ، للتشهير
بخصومه (دينيز بايكال مثالاً)، تظهر الطابع الأخلاقي للسياسة التركية
في بعديها الداخلي والخارجي، بخلاف ركام الوعظ والإرشاد الذي ما انفك
القادة الأتراك، عن قذفه في وجوهنا صبح مساء، ولمسات "الورع" و"التقوى"
التي يغلفون بها مواقفهم وسياساتهم وإجراءاتهم.
على أية حال، بتنا نعرف الآن، وعلى نحو يقيني، كيف أسقطت الطائرة
السورية المقاتلة قبل أيام... بتننا نعرف من يسلح النصرة وداعش
والسلفية الجهادية (2000 شاحنة سلاح)... بتنا نعرف طبيعة العلاقة
الزبائنية التي تقيمها تركيا مع أقرب حلفائها (قطر): ليدفعوا مقدماً
ونقداً ونحن نقدم الذخيرة والسلاح للمعارضة من مخازننا... بتنا نعرف من
يتصرف بالسياسة بعقلية تجار البازار، وليس بذهنية قادة الدولة وقيم من
يدعون النطق باسم رسالة السماء وقيمها.
لا يكف أردوغان وحزبه عن مفاجئتنا يومياً بكل جديد فضائحي... من
أزمة الفساد والإفساد، إلى الإطاحة بالخصوم عبر التشهير الرخيص
والابتزاز الجنيس... بتنا نعرف كيف تدار السياسة الخارجية والعلاقات
الدولية... يبدو أن "العمق الاستراتيجي" لم يكن كافياً لفهم "المسألة
التركية"... هذه التسريبات الموجزة، أصدق أنباء من الكتب السميكة
والمجلدات الضخمة.
أما عن الحملة على مسربي هذه المعلومات، فقد شرب السيد أردوغان من
ذات الكأس الذي أذاقه لخصومه السياسيين، ألم يأمر بتسريب شريط جنسي
لزعيم المعارضة... دينيز بايكال احترم موقعه على أقل تقدير وقرر
الاستقالة والانسحاب من العمل السياسي، في حين لم تكف كل الفضائح
والتسريبات في دفع رئيس الحكومة التركية لاتخاذ قرار مماثل، مع أن كل
واحد منها يكفي للاستقالة والرحيل في بلد ينتسب للديمقراطية، زعماً أو
واقعاً... لكننا بدل ذلك، رأينا شراسة في الاستمساك بالسلطة، وسيل لا
ينقطع من التهديد والوعيد والاتهامات للخصوم و"المسربين"... وحروب
"دونكيشوتية" ضد الإعلام والقضاء والتواصل الاجتماعي والأكراد والعلوين
والعلمانيين، أنها نهاية حقبة في التاريخ التركي الحديث، حتى وأن تم
التمديد لها لبضع سنوات أخر... أنها نهاية "نموذج" قيل وقلنا فيه،
مدائح الظل العالي.
* مركز القدس للدراسات السياسية |