الطموحات العالية وضمانة الوصول الى بر الأمان

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: كل فرد في المجتمع يحمل ميولاً من واقع الفطرة، الى العمل بهدف الحيازة والبقاء، كلٌ حسب قدراته واستيعابه للعلوم والمعارف ما يساعده على القيام بالأفضل، لذا نجد الطموح أمرٌ شائع بين الجميع وبأشكال متفاوتة، فهو يعزز الشعور بالقيمة والفائدة من الوجود في الحياة. وليس إلا القليل ممن يعيش على هامش الحياة، ولا يحمل طموحاً في حياته وهدفاً مرسوماً لمستقبله.

هذا التوجه الانساني نراه مواكباً لحركة المجتمعات والأمم عبر التاريخ، ويظهر جلياً اكثر في حركات التغيير المدعومة سماوياً، حيث تواترت الرسالات السماوية يصدح بها الانبياء والمرسلون بغية تحقيق التغيير والتطوير لمجتمعاتهم، وحملهم على الاسهام في المسيرة الحضارية للبشرية الداعية للعمل والبناء في الاصعدة كافة، سواءً البناء الذاتي، أو الاجتماعي. بيد أن المشكلة في هذا الطريق؛ أن البعض من الطامحين ربما يتعرضون لكبوة وإخفاق، يبعدهم عن المسيرة وعن طموحاتهم واهدافهم الحقيقية. وهذا يتمثل في أمرين من جملة أمور:

أولاً: فقدان المعايير

اذا عرفنا أن العمل والنشاط والحيوية، كلها تعبر بصدق عن إنسانية الإنسان، وهي امر بديهي، فان المشكلة لن تكون في أن يعمل الانسان او لا يعمل، او ان يكون صاحب طموح كبير وتطلع نحو المستقبل أو لا يكون، فالغالبية العظمى من الناس يحرصون على ان يكونوا ضمن هذه الفئة والطبقة، إنما المشكلة في احتمال أن يصبح الطموح طريقاً للتردّي والعاقبة السوأى، بسبب فقدان المعيار او البوصلة التي تحدد الوجهة الصحيحة لهذا الطموح الذي يكون احياناً مجنحاً وعالياً.

فهنالك الكثير من الطامحين حققوا اهدافهم في كسب المال او العلم، بيد ان النتائج ربما لم تكن كما توقعوا، وهي خدمة الناس وإسعادهم.. فيكونوا وقوداً للحروب والسياسات الديكتاتورية القمعية، وأداة لتدمير البلاد والعباد، وليس العكس، وأدلّ على ذلك من المثال العراقي في عهد النظام الصدامي، إذ لم يهنأ العراق - إلا في فترة وجيزة- بالعقلية العلمية المبدعة لابنائه، لانهم سيقوا الى الحروب الكارثية، ومن نجا كانت الغربة والهجرة خياره الوحيد.

من هنا؛ يكون الصلاح، المعيار الأساس لأي عمل يقوم الإنسان مهما كان صغيراً، مثال ذلك مصنع صغير للمواد الغذائية، وهو مشروع صغير وبسيط من الناحية الاقتصادية، بيد أنه قد يتحول الى بذرة حسنة وصالحة للنمو وتكون من عوامل الاكتفاء الذاتي ودعم الإنتاج المحلي، وبالنتيجة تقوية الاقتصاد الوطني أمام التحديات العالمية الموجودة. في المقابل ربما تكون هنالك مشاريع وإعمال من شأنها هدر الثروة الوطنية وتكريس التبعية الاقتصادية وحتى التسبب في البطالة وغيرها من الآثار السيئة، وربما ايضاً يكون مشروعاً مربحاً لصاحبه يحصل من خلاله على عمولات ومكاسب مادية كبيرة.

ثانياً: عراقيل في الطريق

هناك مشكلة مهمة اخرى عانت منها المجتمعات البشرية على طول التاريخ، وهي وجود الأغلال الكثيرة أمام العمل الايجابي والحركة الهادفة، فبالرغم من وجود الطموح والاقدام على العمل، نجد هنالك الاغلال الاجتماعية التي ربما تتحول إلى أغلال نفسية وفكرية تجمّد الانسان وتعرقل حركته.

وعندما نتأمل الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن المهمة الحضارية للرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، {..وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، نجد أنها تتجاوز مفهوم الحرية التي يبحث عنها الانسان ويسعى لتحقيقها، لتشمل كل العقبات والعراقيل التي من شأنها ان تعيق الانسان في حركته نحو العمل والتقدم. منها:

1- الخشية من السلطة أو أصحاب القوة المالية والسياسية، والشعور الغامر بالضعة والحاجة الى الأقوى لدعم مشروعه او الحفاظ على بعض المكاسب. واذا ما جانبنا الحقيقة، نقول: من أخطر ما يرتكبه البعض في اعمالهم ومشاريعهم، اعتمادهم على مصادر القوة في شقيها؛ المال والسلطة، فهو بذلك لا يعرض للطرف المقابل مشروعه وما يحمل من رسالة انسانية واهداف كبيرة وحضارية، إنما يبين المصالح الضيقة والاهداف القصيرة الاجل، مما يجعل هكذا مشروع مهما كان اسمه وشعاراته، أداة تضاف الى أدوات وعوامل اخرى لتسطيح الوعي وتكريس حالة التخلف والمعاناة في المجتمع والأمة. 

2- الخوف من المستقبل.. وهذه ايضاً قاتلة الكثير من الطامحين والعاملين، بيد ان التغلّب على هذه الحالة النفسية المريرة، ليس صعباً اذا عرف الانسان طريقه ووجهته في عمله، فانه سيشعر باندفاع كبير لإيمانه بصلاح ونجاح عمله مهما طال الزمن وقدم من تضحيات. فالمستقبل المجهول والخوف من القادم، ينشأ من مجهولية الهدف والغاية، والانفصال بين العمل وبعده المستقبلي.

3- مجاراة مزاج الناس.. وهذه ايضاً تُعد من "الاغلال" والعراقيل، فالذي يحسب لكلام الناس ألف حساب، قبل أن يقوم بعمل ما، ويدرس مزاجاتهم وما يعجبهم او لا يعجبهم، فانه بالقطع واليقين سيفقد التركيز الى الهدف الاساس الذي من اجله يبذل جهده المالي والعضلي، وربما يضيع ما في يديه، كما لا يدرك غاية الناس ورضاهم، فهو انسان واحد، والناس اصناف شتى في المزاجات والطلبات والاهواء، حتى وإن كان بعضها على حق، فالصحيح من المطالبات ينبغي ان تنصهر في مشروع العمل الذي يعود في النهاية اليهم، لا أن يكون على شكل حجرات وعثرات تصدح بالنقد والقدح، ثم تتحول الى حاجز أمام تقدم العمل وتطوره.

ولعل مثالنا العظيم في هذه النقطة، أمير المؤمنين، عليه السلام، الذي أبهر العالم بصموده وتحديه للواقع الاجتماعي الفاسد في عهده، ومحاولته الحثيثة للتغيير والإصلاح، ".. والله إني أعرف ما يُصلحكم، لكن هيهات أن أصلحكم بفساد نفسي". وكان بامكان الإمام، عليه السلام، ان يجاري الناس في أذواقهم وأهوائهم وما يريدون من راحة ودعة، ولا يضغط عليهم إلا بما يحقق مصالحه السياسية، بيد ان هذا النهج خاص بأولئك البعيدين عن المسيرة الحضارية والاهداف الانسانية. وهو في ذلك يجسد التعبير القرآني عن المؤمنين الحقيقيين: {لا يخافون لومة لائم}.

من هنا؛ فالانسان ربما تأتيه فرص كبيرة للعمل والتقدم، او قد يحصل عليها بجهده، فتكون الخطوة الثانية والأهم في توجيه هذه الفرصة لتحقيق أعظم النتائج واكثرها عطاءً للناس والمجتمع. واذا نظرنا الى الرسالات السماوية، وايضاً الرسالة الخاتمة، نجد أنها تدعو الى العمل والكدح وايضاً الى إثارة دفائن العقول ثم الاستفادة السليمة نحو الابداع والتطور.

وامامنا أمثلة كثيرة من مشاريع وأعمال كبيرة في مجتمعاتنا وبلادنا، وقفت خلفها أموال طائلة وأفكار ورموز سياسية ودينية وشتى صنوف الامكانيات، لكن ماذا عن النتائج..؟ هنا تكمن العِبرة والاستحقاق الجماهيري – إن صحّ التعبير- وليس فقط المنجز الذي ربما يتباهى به البعض، وقد يكون في هيئة مؤسسات ثقافية ضخمة، او مؤلفات او تنظيمات سياسية.

دخل أمير المؤمنين، عليه السلام، ذات مرة، على العلاء بن زياد الحارثي - وهو من أصحابه في البصرة - يعوده، فلما رأى الإمام سعة داره قال:

"ما كنتَ تصنعُ بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنتَ أحوج"؟

فهل يعني هذا الكلام أنه كان على الحارثي أن يبيع داره وينفق ثمنها في سبيل الله حتى يكسب بذلك داراً في الآخرة؟

يجيب الإمام، عليه السلام على هذا التساؤل في تتمة كلامه:

"..بلى؛ إن شئت بلغتَ بها الآخرة؛ تُقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطلِع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغتَ بها الآخرة".

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25/آذار/2014 - 22/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م