منذ تأسيس الاتحاد الأوربي بدوله الواقعة في أوربا بشقيها الغربي
والشرقي وتركيا تحاول ان تحقق حلمها بالانضمام لهذا الاتحاد مستفيدة من
الحقيقة الجغرافية لوقوع الجزء الغربي من مدينة اسطنبول في القارة
الاوربية. هذا الحلم قد بدأ يتحقق عام 2005م حيث أعلن رسميّا فتح الملف
التركي من أجل مفاوضات الانضمام، وقد كان الطموح التركي للانضمام الى
دول هذا الاتحاد مفهوما ومبررا، فالأتراك يسعون الى مشاركة أوربا في
تطورها واستقرارها ورفاهها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
لم تكن عمليّة التحضير لانضمام تركيا الى دول الاتحاد سهلة وبسيطة
إنما كانت صعبة ومعقدة، فقد برزت العقبات والصعوبات أمام هذا الانضمام
كان أهمها رفض بعض دول الاتحاد للعضوية التركية حيث تجسّم هذا الرفض
بسلّة المتطلبات الأوربية المقدمة الى تركيا كشروط ومستلزمات وصلت حد
التعجيز في بعض الأحيان. لم يفرح الفرنسيون ولا اليونانيون ولا
القبارصة لفتح ملف الانضمام بل عارض هؤلاء علناً انضمام الاتراك الى
الاتحاد الأوربي. كما أن هناك من أخفى رفضه وهناك من وافق على مضض حتى
صارت لعبة جر الحبل بين الاطراف طويلة وشاقة وغير حاسمة.
رغم الاشارات الايجابية التي انطلقت من الجانب التركي كبوادر خير
وتقدم في كافة المجالات ابان فترة فتح ملف الانضمام إلاّ أنه تحتم على
الاتراك أن يحققوا فصول الانضمام التي جاءت بـ35 فصلاً. أولت القيادات
التركية جل اهتمامها في تحقيق هذه الفصول ابتداءاً بتلطيف الجو السياسي
ومرورا بالازدهار الاقتصادي ووصولا الى الرفاه الاجتماعي والاهتمام
بحقوق الانسان. كان ذلك بداية مطمئنة لدول الاتحاد في بدء مشوار
محادثات الانضمام التي تركزت على الاصلاحات السياسيّة الداخليّة والتي
يجب ان تتناغم وتتطابق مع الذوق والمنهج الأوربي.
لم يمض طويلا من الوقت حتى أفاق الاتراك على حقيقة التهاون الاوربي
في عملية انضمام تركيا الى دول الاتحاد وعدم جديتهم لتحقيق هذا
المشروع، فبدأ العد التنازلي التركي للرحيل أو على الأقل تجميد عملية
الانضمام وعدم الاكتراث بها. هناك الكثير من الحقائق والاحداث تشير الى
توافق اوربي تركي في الرؤى والمسار ينصب على تجميد الصلة وايقاف مشروع
ادماج تركيا مع دول الاتحاد الاوربي أهم هذه الحقائق هو:
أولا، لم يفتح من الـ 35 فصل من فصول الانضمام المطلوب تنفيذها إلاّ
13 فصلا! بينما جُمّدت 8 فصول بقرار المجلس الأوربي عام 2006م، في حين
رفعت فرنسا حق الفيتو بوجه خمس فصول ورفعت قبرص حق الفيتو على ستة
فصول. أعتبر الاتراك هذا التصرف الاوربي بأنه تباطؤ وعرقلة في إنجاز
الفصول وحجج واهية يستخدمها الاوربيون لرفض انضمام تركيا الى دول
اتحادهم.
ثانيا، إبان الاحتجاجات العارمة التي اجتاحت تركيا كردة فعل لقرار
الحكومة بتحويل منتزه "ميدان تقسيم" الى مجمّع تجاري في مدينة إسطنبول
في صيف عام 2013م، أصدر الاتحاد الأوربي قرارا بهذا الشأن أدان فيه
الاسراف باستخدام القوة ضد المتظاهرين الاتراك. لم تعر الحكومة التركية
أهمية لهذا القرار بل رفضته بإصرار حيث تهكم رئيس وزراء تركيا رجب طيب
اردوغان على هذا القرار واعتبره كيل بمكيالين مشيرا بأن الانتقادات يجب
أن يوجهها الاتحاد لنفسه. بل رفضت تركيا تدخلات السياسيين الأوربيين في
شأنها الداخلي وكأنها أرادت أن توحي للأوربيين بأنكم لا تهموننا أو نحن
لسنا جزءاً منكم. هذا الأمر قد زاد التوتر بين الطرفين وجمّد الاتصالات
المشتركة المتعثرة حول الانضمام، وجعل التراشق مستمرا بالأقوال خصوصا
بعد أن اقترحت حكومة أردوغان مؤخرا مشروع قانون يمنح جهاز الاستخبارات
الداخلية سلطات أوسع. فقد صرّح النائب الأوربي البريطاني أندرو داف بان
تعليق طلب تركيا في الانضمام لدول الاتحاد سيتخذ خلال هذا العام، كما
أن هيلين فولتر، رئيسة اللجنة البرلمانية التركية الأوربية المشتركة،
أشارت الى أن أهلية تركيا لعضوية الاتحاد أصيبت بضعف شديد خلال السنوات
الأخيرة.
ثالثا، ترى تركيا نفسها ومن خلال مواصفاتها العامة بأنها دولة كبيرة
في ثقلها وتأثيرها وأهميتها، فهي قوة سياسية واقتصادية وعسكرية يحسب
لها، كما أن لها خصال استراتيجية مهمة: فهي عضو في حلف الناتو وفي
المجلس الأوربي وفي دول G20 ومجلس الأمن والمؤتمر الاسلامي. كما أن
تأثيراتها على دول المنطقة ودورها في موازنة القوى وموقعها الجغرافي
الحساس جعلها قوة لا يستهان بها ويحسب لها ألف حساب. هذا الشعور
المتنامي في الاهمية والثقل يتناقض مع سياسة الاوربيين المهينة لها في
وضع الموانع والعقبات أمامها في معالجة ملف الانضمام الى اتحاد دولهم.
فقد ملّ الأتراك من الركض وراء الأوربيين الذين يتعاملون معهم وكأنهم
طلاب مشاكسين غير مؤهلين للنظم والالتزامات الأوربية.
رابعاً، في الوقت الذي تتنامى به قوة تركيا الاقتصادية أصيب
الاقتصاد الأوربي بالركود والجمود، حتى تباهى الأتراك باقتصادهم الصاعد
صعود اقتصاديات الدول النامية والصاعدة اقتصاديا مثل الصين والهند
والبرازيل. فقد حقق الاقتصاد التركي ارتفاعات ملحوظة في معدلات اجمالي
الناتج المحلي GDP خلال السنوات الأخيرة. هذا التفاوت في المسار
الاقتصادي بين تركيا وأوربا جعل الأتراك يشعرون بأنهم هدية الى أوربا
وليس العكس وبأنهم قد يفيدون أكثر مما يستفيدون وأن المعادلة صارت
مقلوبة الآن، فليس من المعقول أن تبقى تركيا تتباكى اليوم أمام من لا
يعرف قيمتها ومنزلتها.
تحت ظلال هذه الحقائق يتضح للمتابع للشأن بأن فترة الغزل التركي
الأوربي قد توقفت وأمل الاندماج التركي الأوربي قد انحسر بل أن مرحلة
التباعد والانفصال قد بدأت فعلا، وأنه ينبغي على الأتراك أو على الأقل
الحكومة التركية الحالية أن تحفظ ماء الوجه وتصرف النظر عن فكرة
الانضمام الى دول الاتحاد الأوربي فالظروف العامة غير مؤاتية للطرفين
وحيث تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.... |