التغيير.. الخوف والمقاومة

في ملتقى النبأ الأسبوعي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: التغير هو التبدل، وهو التطور، أي التحول من طور الى طور، وهو الصيرورة أي الانتقال من صورة الى صورة، بلا تضمين قيمي، كالقول ان التغير هو التقدم، فالتغير يتضمن التقدم والتأخر معا. والاهم عدم الخلط بين التغير والتغيير، اذ ان مفهوم التغيير يتضمن معنى التغير المنشود نحو الأفضل، أي معنى التقدم والتحسن، بينما مفهوم التغير له معنى الحدث الواقعي المحايد.

والتغيير كما في مفردات الراغب الأصفهاني: يقال على وجهين: أحدهما لتغيير صورة الشيء دون ذاته، والثاني لتبديله بغيره.

تتوق مجتمعاتنا العربية والمسلمة، وتتطلع نحو التغيير، وتنشد الانتقال بأحوالها المتردية الى أحوال افضل من ذلك، لكنها وعبر مسيرتها الطويلة، منذ وعيها بحقيقة تراجعها، الا انها لم تمتلك مفاتيح التغيير، او استطاعت ان تمارسه. حتى وان حاولت في بعض الفترات الفارقة، فانها عادت وانتجت نفس نظمها السياسية والاقتصادية، وكأن ذلك حتمية تاريخية، في التطلع الى التغيير ومقاومته في الوقت نفسه.

حول التغيير، تطلعا وممارسة وممانعة، كان ملتقى النبأ الأسبوعي، الذي تعقده مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام، في كربلاء المقدسة.

كان المدخل الى الموضوع، هو عدة أفكار قدمها مرتضى معاش رئيس المؤسسة، منطلقا من حقيقة مؤكدة، وهي ان مجتمعاتنا العربية والمسلمة، مجتمعات (راكدة، جامدة، كسولة، مرتعبة) من التغيير، تحاول ان تحافظ على ما هو موجود في يديها. يعود ذلك برأيه الى الخوف المتأصل في النفوس، من كل تغيير يطال حاضرها، وخوف اخر من المستقبل الذي هو مجهول بالنسبة لها. ومع الاعتراف بان الخوف غريزة مترسخة في الانسان، وخاصة الخوف مما يهدد (البقاء على قيد الحياة)، الا ان تلك الغريزة قد تضخمت نتيجة لعوامل بيئية - سياسية - اجتماعية -اقتصادية، إضافة الى ما تمارسه السلطات من غسيل أدمغة لإفراد المجتمعات.

في كل شؤونه، يستمر معاش متحدثا عن وجهة نظره، المجتمع الخائف من التغيير، هو مجتمع خائف من كل شيء على عكس المجتمعات التي لا تخاف وتمارس التغيير.

وهناك كما يرى معاش، عيوب نفسية فردية، بتواجدها داخل ذوات الافراد في المجتمع، تتحول الى عيوب نفسية جمعية تصيب المجتمع باسره، كما تشير الى ذلك الكثير من دراسات علم النفس الجمعي. هذه العيوب هي بمثابة بؤر متحصنة من خلال مواقع الافراد وادوارهم، والتي تكون على شكل (قوى سياسية – اقتصادية – دينية) هذه القوى وبحكم امتلاكها للسلطة والنفوذ، تحاول ان تحافظ على مصالحها وتبث الخوف في المجتمع من التغيير القادم.

الممارسات الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية، قادت وبحكم قرون طويلة، الى تراكم في ذاكرة الشعوب التاريخية، حوّل تلك التراكمات الى جبال ضخمة ومصدات ضد التغيير.

يرى معاش، ان الوقوف ضد التغيير، جعل من الدكتاتوريات بكل أنواعها (دينية سياسية اجتماعية) تجد تربة خصبة للوجود الراسخ في تلك المجتمعات. هذه الدكتاتوريات على اختلاف أنواعها، لا تسمح بظهور أي انجاز أو ابداع لا يحسب لها.

يفرق مرتضى معاش، بين ثقافتين أو طريقتين للتغيير، الأولى يسميها بالتغيير كثقافة هدامة، والثانية، التغيير كثقافة بناءة، ويميز بينهما من خلال دراسة العناصر التي تساعد على التغيير، وتقود اليه.

يقترح معاش مقاربة أخرى للتغيير، منطلقا من الجهود التي يقوم بها أصحاب المصالح في اوربا وامريكا والذين يشجعون على التغيير، من خلال التجديد والابتكار المتواصل في تطوير منتجاتهم. وهو مايدخل في صلب الفكر الرأسمالي، حيث كل تغيير وتجديد يؤدي الى زيادة الإنتاج، وطرق جديدة لتوسيع الاستهلاك.

ورغم ان مثل هذه التغييرات قد تكون سلبية، تقتضي من اصحاب المصالح تخفيف الاجور واعداد العمال، الا ان هناك بالمقابل مفكرون اقتصاديون يرون ان رفع الاجور يؤدي الى رفع مستوى السوق وزيادة الاستهلاك.

وحول هذه النقطة يستفيض معاش في شرحه، ويرى ان الصراع بين امريكا التي تبحث عن الهيمنة وبين اوربا القارة العجوز، التي تمانع ذلك للحفاظ على تراثها، وتتشبث بتقاليدها الاستعمارية المقاومة للتغيير، يدور حول رغبة امريكا بقلب خريطة العالم لتغييره نحو الذهاب الى مستقبل اقتصادي اكبر، فالتغيير الذي تقوده أمريكا بموازاة اوربا، هو قوة دافعة، وهو قدر للمال. ويستشهد بكتاب (امبراطورية الثروة: التاريخ الملحمي للقوة الاقتصادية الأمريكية) لمؤلفه (جون ستيل جوردون) الذي يعرض تاريخ الولايات المتحدة الامريكية لوصولها الى القوة الحالية عبر سرد نسيج المغامرة بالتحدي، بدءا من الثورة الامريكية الى الاستقلال الى الكساد العظيم والاختراعات الى الوصول الى التقنيات العالية والانترنت مطلع الالفية الثانية ويتحدث عن عناصر القوة الامريكية عبر السنين. ويتحدث الكاتب عن ثرواتها وتوزعها وانها اساس قوة امريكا. انه الاندفاع الى المستقبل لتطوير الرأسمالية.

يعود مرتضى معاش، الى ما يعتقده هو السبب في تلك الممانعة التي تبديها مجتمعاتنا للتغيير والوقوف ضده، وهو يختار تسمية (الجينوم الثقافي) الذي تتوارثه مجتمعاتنا جيلا بعد اخر. وهذه الجينة الثقافية مترسخة عند الانسان ومتحكمة فيه، وهي مكتسبة قامعة للتغيير. لتغيير ذلك يطالب معاش باعادة برمجة المفاهيم المترسخة في البنية الثقافية للمجتمع.

من يقف ضد التغيير ويقاومه؟.

انهم رموز السلطة الذين يصلون الى مرحلة من الاكتفاء، يعتقدون فيها أن التاريخ يقف عند اللحظة الراهنة، لحظتهم هم التي وصلوا اليها، ولا جديد بعدها. ولا يترك التاريخ يتقدم الى المستقبل. انه في وقوفه ضد التغيير، يريد ان يغلق نفس الطريق الذي سار فيه واوصله الى ما هو عليه. والتغيير هو عامل جوهري في حركة التاريخ، وكل من يقف ضد ذلك من الحكام المستبدين يدوسه التاريخ ويمضي الى المستقبل.

في ختام ما قدمه من أفكار، يتساءل معاش، كيف يمكن ان نتغير ونغيّر؟

انه يقرأ الاية القرانية (لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)، من زاوية التغيير المستمر بالاتجاه الى الامام وليس الوقوف عند حالة تغييرية واحدة نتصور انها منتهى التغيير.

وهو أيضا يحثنا على ان نكون في فهمنا للتاريخ ننطلق من التفريق بين الافتخار والاعتبار.

ويطالب معاش أخيرا، باعادة برمجة الافكار والاولويات والتفكير نحو الامام.

في تعقيبه على ما طرحه مرتضى معاش، يبدأ باسم الزيدي الباحث في مركز المستقبل للدراسات والبحوث بسؤال يعتقده جدلي، وهو : هل الخوف من التغيير نابع من الحكومات ام المجتمعات؟ يترك السؤال معلقا، ليتحدث عن طبيعة الأنظمة الحاكمة في بلداننا، ويقسمها بين ملكية وجمهورية، وتلك الأنظمة الجمهورية كما يرى الزيدي، قام اغلبها نتيجة لثورات او انقلابات عسكرية، نادت بالتغيير، لكنها بمجرد ما استولت على السلطة، وجدت تلك المجتمعات ان تلك الشعارات لم يتحقق منها غير تغيير الوجوه في نظام الحكم. وكانه هو قمة التغيير المنشود.

في كل ما يعتقد انه تغيير في مجتمعاتنا، يضيف الزيدي، ان الاليات التي اتبعت في عمليات التغيير هي اليات خاطئة، فانتفاضات الربيع العربي على سبيل المثال، اكتشف القائمون بها بعد تغيير الأنظمة في عدد من البلدان، ان ربيعهم تمت مصادرته من قبل جماعات الإسلام السياسي، ومن قبل أصحاب المصالح السابقة والذي عرفوا كيف يتلونون ويغيرون جلودهم للاستفادة من لحظة التغيير.

يشترك الدكتور علي محمد ياسين التدريسي في جامعة كربلاء بهذا النقاش، ويطرح جملة من الأفكار والتصورات، حيث يرى ان الجانب الاقتصادي يشكل عاملا مهما جدا من العوامل المساعدة على التغيير.

يتساءل ياسين حول البناء الذهني للعقلية العربية والمسلمة وكيف انبنت بهذا الشكل رغم أن الاسلام يدعو الى التجديد،. ويذكر في هذا المجال بحديث للامام علي (عليه السلام) وهو قوله: : (لا تقسِروا أولادكم على آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم). وهو يرى اننا حتى اللحظة لانمتلك القدرة على الانفلات من اسر النموذج القديم الذي يمثل الاسلام كما هو، ولا نملك وعيا كاملا بالتجدد مع العصر والانفلات من هذا النموذج. ثم يتساءل مرة أخرى، كيف يعيش الانسان مع حالة عصره؟ ويجيب: انه لا يعيش لحظة (الان وهنا)، بل هو يعيش لحظة تاريخية ماضية محددة، يريد الرجوع والعودة اليها، كما تطرح ذلك الكثير من الحركات الإسلامية، الأصولية والسلفية، وكذلك الوهابية، التي تعيش خارج الزمن.

يعود ياسين مرة أخرى الى البناء الذهني الجمعي الذي يسيطر على طرق تفكيرنا. هذا البناء الذهني، هو المسؤول كما يرى ياسين، عن وجود هذه السلطات المتعددة في مجتمعاتنا مثل (العسكر – العشائر – رجال الدين- الاعراف الاجتماعية)، وهي بمجموعها قادرة في كل حين على انتاج وصناعة الدكتاتور. البيئة الاجتماعية تشجع على ذلك، والمجتمع يحصنه ويعطيه المشروعية.

يذهب ياسين باتجاه اخر في مداخلته، ويشير الى كتاب (تاريخ الجنون) لميشيل فوكو، والذي يقدم تحليلا معرفيا للسلطة في المجتمع من خلال الجنون والشخص المجنون. حيث كان المجنون في اوربا مثل أي انسان عادي في المجتمع، لا قيود عليه. لكن العقلانية الاوربية في صعودها اوجدت مصحات نفسية تسجن المجنون فيها، ولان العقلانية في اوربا قد ارتبطت بالنزعة العقلية وترى في الجنون ما يخالف نزعتها تلك، فانها أعطت الحق لنفسها لفرض الهيمنة والقوة في محاربة المختلف عنها..

يرى ياسين، ان وعي الذات لنفسها، وطريقة تشكيله لهذا الوعي، والاعتزاز بالذات، إضافة للجينوم الثقافي الذي أشار اليه معاش، هي الحائل الكبير ضد التغيير، ويطالب في ختام مداخلته، بتصحيح وزعزعة الكثير من تلك المفاهيم القارة في البنية الذهنية، والمانعة للتغيير.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 24/آذار/2014 - 21/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م