المسلمون في الغرب بين التطرف والذوبان

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: تصاعدت حّدة المشاكل لدى المسلمين في الغرب أن تُختزل اخبارهم – تقريباً- على مطاردة المشبوهين عبر المطارات والمنافذ الحدودية، والانعزال والتطرّف، والهجرة غير الشرعية، والنقاب، والانشغال بردود الفعل على هذه الإساءة وتلك للمقدسات الإسلامية، بعد ان كانت اخبارهم واوضاعهم في الماضي تدور حول الاسهامات العلمية والنشاطات الثقافية السلمية، والمشاركة البناءة في الحياة الاجتماعية، الامر الذي أحيى فكرة جديدة – قديمة، تقضي بمزيد من اندماج المسلمين في المجتمع الغربي.

وعندما نعرف أن وجود المسلمين في بلاد الغرب، سواءً البلاد الأوربية او القارة الأمريكية، لا يعود الى السنوات الماضية، إنما الى حوالي اربعة قرون خلت، يتضح لنا أن الوضع الراهن إنما هو طارئ عليهم، وهي حقيقية ربما يعرفها اصحاب القرار والطبقة الواعية في الغرب، لمعرفتهم الدقيقة بحقيقة الاسلام. وما يعزز هذه الحقيقة، الانتشار السريع للاسلام في اوربا والغرب بشكل عام، وازدياد عدد المستبصرين يوماً بعد آخر.

ويتفق معظم المؤلفين والباحثين على أن وجود المسلمين في اوربا وامريكا يعود الى الحقبة الاستعمارية، أي الى حوالي القرن السادس عشر، واستمرت الهجرة على اشكال وبدوافع متعددة، من السياحة والدراسة والتجارة، وربما تكون ذروة هجرة المسلمين الى الغرب، مع بدايات القرن الماضي وما أعقبها من الحربين العالميتين، ومع اندلاع أزمات سياسية خانقة في البلاد الاسلامية دفعت أبناء الطبقة المتعلمة الى الهجرة للبحث عن سبل أفضل للعيش بالاستفادة من كفاءاتها العلمية وإمكاناتها، والاهم من ذلك الاستفادة من القوانين المشجعة على الاقامة والعمل والتوطّن في الغرب، فقرر الكثير من العلماء واساتذة الجامعات واصحاب الاختصاصات الى اتخاذ الغرب البلد الثاني او البديل لهم، والبدء بحياة جديدة بعيداً عن سياسات القمع والتمييز والديكتاتورية. وحسب بعض الاحصائيات فان عدد المسلمين في القارة الاوربية وحدها يبلغ حوالي (30) مليون نسمة من مجموع عدد سكان القارة البالغ (600) مليون نسمة.

هذا العدد الكبير والعمق التاريخي للوجود الإسلامي، أثار بالحقيقة الكثير من التساؤلات لدى الباحثين عن اسباب بروز مظاهر العنف والتطرف ومحاولة البعض إلصاقها بالإسلام.. وقد كتب الكثير عن الخلفيات والاسباب والعوامل، بيد ان بالامكان الاشارة الى عاملين اساس من جملة عوامل:

الأول: العامل الداخلي – الغربي

من المعروف ان المسلمين مهما فعلوا وأحسنوا، يبقون أقلية في مجتمعات غريبة عنهم في العقيدة والثقافة، فضلاً عن وجود بعض الشحنات النفسية من تراكمات تاريخية التي تخلق صوراً نمطية عن الاسلام عندما حلّ في الاراضي الأوربية وتحديداً في "الأندلس"، يُضاف إليها آثار الحكم العثماني في منطقة البلقان. هذه الخلفية وغيرها، دفعت بأوساط سياسية ودينية الى توجيه القرارات صوب المزيد من التشدد على حياة المسلمين هناك، بالرغم من ان الديانة الاسلامية تُعد الثانية في اوربا بعد المسيحية من حيث عدد الاتباع، بينما نرى الاجحاف والتمييز واضحين في التعامل، على العكس من نوع التعامل الودّي مع اليهود رغم قلة عددهم.

وتأتي مسألة عدم الاعتراف بالدين الإسلامي، كدين رسمي في البلاد الغربية، في مقدمة العراقيل التي تقيد حركة ونشاط المسلمين لما يترتب عليها من آثار سلبية، مثل حرمانهم من تلقي الدعم المادي الحكومي من الضرائب التي يدفعها المسلمون، وعرقلة بناء المساجد، او المضايقات للموظفين والعاملين فيما يتعلق بأداء الفرائض الدينية أو الحصول على إجازات في الأعياد الإسلامية.

ويرى بعض المتابعين لشأن الجاليات الإسلامية في الغرب، ان امتناع العواصم الغربية او تجاهلها لطلب الاعتراف بالديانة الإسلامية، مردّه الى المخاوف من قبولهم بواقع الحجاب للمرأة في المؤسسات الحكومية، مثل المدارس والجامعات وبعض الدوائر الرسمية التي تشكل واجهة ذلك البلد. فاذا فسحت دول متعنّتة في هذا المجال مثل بريطانيا والمانيا وفرنسا، المجال أمام المحجبات في المؤسسات التعليمية والتجارية والإدارية، فان المستقبل سيظهر لأوربا وحتى أمريكا، شخصيات اكاديمية عليا او شخصيات بارزة سواء على الصعيد البرلماني او الاداري او غيره، وهي بالزي الاسلامي، وهو ما لا ترتضيه أوساط سياسية متنفذة بدوافع قومية ودينية – كنسية. بينما لاحظنا العكس تماماً؛ وهو مساندة اعمال تجديفية بشكل غير مباشر لمسلمين تخلّوا عن الاسلام، مثل "سلمان رشدي" وروايته المثيرة "الآيات الشيطانية" عام 1989، وما تزال تظهر اساءات للاسلام ومقدساته عبر وسائل الاعلام الغربية بين فترة واخرى، وتكون الاوساط الحاكمة آخر من يعلم.

الثاني: أنظمة الشرق

ان مفردات مثل "الارهاب" و"الكراهية" و"التطرف" لم نكن نسمعها في الغرب، إلا بعد ان أسس حكام البلاد الاسلامية طيلة القرن الماضي، لتلك المفردات وعملوا على تكريسها في الواقع بأساليب وطرق مختلفة، فأساليب التعامل الوحشي مع المعتقلين، او المطاردات والتصفيات الجسدية، دفع ببعض الجماعات المعارضة التي تدّعي حمل افكار اسلامية لنقل نشاطها الى الغرب حيث الأمان والحماية القانونية بفضل قوانين اللجوء السياسي الذي حصل عليه العشرات او المئات من أعضاء التنظيمات والجماعات الناشطة التي يدعي بعضها المطالبة بتطبيق الشريعة الاسلامية ومناهضة الانظمة الحاكمة في البلد الأم.

وحسب مختصين بشأن الجماعات الإسلامية المقيمة في الغرب، فان هذه التنظيمات المتطرفة تضم افراداً قضوا فترات طويلة في أقبية السجون العربية، وتعرضوا لإعمال تعذيب قاسية ومتعمدة لتحويلهم الى اشخاص لا يفهمون سوى لغة العنف والدم والتطرف. لذا عندما نجد التشدد في بعض المظاهر الدينية لدى البعض في الغرب، فانه بالنسبة اليهم يُعد نوعاً من "الجهاد في سبيل الله" والتنازل عنه، يُعد خيانة وارتداد عن الدين.

ولعل من ابرز هذه المظاهر التي أثارت جدلاً واسعاً في الغرب، ظاهرة النقاب لدى النساء، وهو الذي أثار الأوساط الإسلامية قبل الغربية، حيث ان المرأة المسلمة ترتدي الحجاب في الاماكن العامة في البلاد الغربية وأي مكان بالعالم، منذ سنوات وعقود دون أن يضايقها أحد، بيد ان بعض الجماعات المتطرفة اتخذت من الاصرار على الالتزام بالنقاب لعدد من النسوة، بمنزلة المعركة الفاصلة والمصيرية، الامر الذي انعكس سلباً على حياة المسلمين بشكل عام في الغرب.

هذا الواقع المشوّه، أعطى المبرر لبعض الاوساط لأن تعيد الكرّة وتتحدث بقوة هذه المرة عن ضرورة اندماج المسلمين في المجتمع الغربي، والتخلّي عن بعض الالتزامات لصالح العيش الآمن والمستقر دون مشاكل. وقد لاقت الفكرة بعض التأييد مع بعض التعديل من لدن اوساط اسلامية، وربما شريحة لا بأس بها من المسلمين هناك، كرد فعل واضح على الصورة المشوهة التي رسمتها الجماعات المتطرفة عن الاسلام في الغرب.

ورغم بعض الدعوات للذوبان والاندماج، إلا ان الغالبية العظمى من المسلمين يقفون بحدّة امام هذه الدعوات لما تحمله من نتائج سلبية واضحة سلفاً، ولعل ابرزها ما يظهر من السلوكيات والممارسات لدى شريحة من الشباب المنحدر من عوائل مسلمة. الامر الذي يدعو الى الطريق الثالث وهو الاعتدال والتوازن، بحيث يحافظ الانسان المسلم على عقيدته والتزاماته ومبادئه، وفي نفس الوقت يعزز من وجوده الاجتماعي في الغرب.

وقد أكد قادمون من الغرب على حقيقة التقبل الفطري والوجداني لدى الانسان الغربي للتعاليم والاحكام الإسلامية عندما يكون الطرح مقبولاً ومنطقياً بعيداً عن الإكراه والاستفزاز والتشدد.

من هؤلاء شاب من بريطانيا جاء لطلب العلوم الدينية في كربلاء المقدسة، ان بالامكان إزالة الحواجز النفسية بين الانسان الغربي وبين الاسلام، عندما نقارن بين الارهاب الذي تمارسه الجماعات التكفيرية والمتطرفة بإزهاق أرواح الناس ، وبين الإرهاب الذي مارسه يزيد بن معاوية عندما أقدم على جريمة قتل الامام الحسين، عليه السلام.  

وهناك تأكيدات من مصادر عديدة في الغرب على التأثير الكبير الذي تتركه بعض المؤسسات الاسلامية والثقافية في بلاد الغرب، في مجال إزالة الشوائب عن الصورة الناصعة للإسلام، ومن هذه المؤسسات، الحسينيات التي تنشط بالدرجة الاولى في ذكرى استشهاد الامام الحسين، عليه السلام، لما لقضية عاشوراء من ثراء وعمق في المفاهيم والمبادئ الإنسانية، مثل الحرية والكرامة والوفاء ونبذ القسوة والعنف والديكتاتورية.

والى جانب ما تقوم به مؤسسات ثقافية عديدة من نشر مطبوعات ومؤلفات دينية بين المجتمع الغربي، وإقامة برامج ثقافية عامة مثل المحاضرات الدينية التي تكسب عدداً لابأس به من الشباب الغربي، فان المسلمين هناك مطالبون اليوم قبل أي يوم آخر، بتجسيد القيم الأخلاقية والإنسانية في المحيط الاجتماعي لتقديم صورة ناصعة وحقيقية عن الاسلام الذي يعتنقونه، وهذا بحد ذاته يُعد خير وسيلة تبليغ ورسالة بليغة الى المجتمع الغربي بأن الاسلام لا علاقة له من قريب ولا من بعيد بالتطرف الديني والتشدد والإكراه، وكل ما يناقض كرامة الانسان وحريته.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/آذار/2014 - 19/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م