قيمة العلم وطموح السلطة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: قيمة العلم من قيمة الإنسان، فالعلم يحقق الرؤية الصحيحة ومعرفة النظم الحاكمة في الحياة، كما يهتدي به الى سبل تسخير ثروات الأرض وتحويلها الى طاقات وقدرات في طريق التطور والتقدم.

الى هذا، أشار المفكرون الى كون العلم، عامل تفضيل الانسان على الطبيعة، بدليل قدرته على تسخير كل شيء بعلمه وتجاربه ومعارفه، فاذا سُلب منه العلم، ليس فقط يكون عاجزاً عن فعل شيء، إنما يكون أقل شأناً وقيمة من الطبيعة ومن الحيوانات، لأنها تواصل حياتها بفضل الغريزة المودعة فيها، والقدرة على التكيّف مع ظروف الطبيعة، وهذا ما يفتقده الانسان، فهو مزوّد بأفضل من ذلك وهو العقل، الذي من خلاله يهتدي الطريق الى التفوق على الطبيعة وقوانينها، بما يحقق فيها اهدافه وغاياته.

هذه الحقيقة تثير عند البعض الرغبة الجامحة في استثمارها في أكثر المسائل جدلاً وإثارة في الماضي والحاضر والمستقبل، ألا وهي مسألة القيادة والحكم، فالحاكم بحاجة دائماً الى وسائل تكرس وجوده السياسي وتبعد عنه التحديات واحتمالات السقوط، لذا نرى الانظمة السياسية التي جربت حظها في مجال التوسع والنفوذ والتأثير على الافكار والاتجاهات في المحيط الاقليمي والدولي، تعكّزت بشكل رئيس على علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع وعلم النفس، لدراسة الوضع الانساني من جهة، وعلى علماء الفيزياء والكيمياء والهندسة، لدراسة الوضع الميداني وما يمكن تحقيقه من منجزات في التصنيع العسكري وتشييد الجسور والانفاق، والتوصل الى مراقي التطور في إنتاج اسلحة الدمار الشامل.

وقد أثارت المآلات الخطيرة والمريعة لتلكم التجارب السلطوية، التساؤل لدى الشعوب، عن السبب في تورط العلم والعلماء في مشاريع فاشلة ومدمرة، في وقت يفترض ان يكون العلم وسيلة رقي ورفاهية الانسان. كما تبحث شعوب العالم اليوم دون استثناء، بين أروقة الحكم ومراكز القرار، عن حقيقة الإدعاء بقدسية العلم والاهتمام بالعلماء والمبدعين وايضاً بالمراكز الاكاديمية، في وقت تزداد معاناة البشر يوماً بعد آخر، وربما لا يوجد اليوم جانب في حياة الانسان إلا يخيم عليه الحزن والنكد، من أمراض أو ظواهر مرضية غريبة، ومن تفاقم ظواهر اجتماعية قديمة مثل الفقر والمجاعة والأمية، الى جانب الازمات السياسية، على الصعيد الداخلي والخارجي، بسبب التناقض بين المفاهيم والقيم، واعتماد الازدواجية في المعايير.

في مقابل السواد الأعظم من الناس الغاضبين على ما يقدمه العلم – في بعض الاحيان- من نتائج كارثية، هنالك شريحة من أدعياء العلم، يقفون بقوة خلف أبواب الوزارات والقصور الرئاسية، بل وفي أقبية المخابرات ومراكز التخطيط العسكري، ليس لهدف سوى الحصول على المال والجاه والمنصب. وإن تحدث البعض عن دوافع اخرى يسعى جاهداً لإلصاقها بنفسه، من قبيل "الوطنية" أو "الانسانية"، فانه لن يصمد أمام حقائق تؤكد وجود نقيض هذه المفاهيم، فمن الذي باع علمه وخبراته وتجاربه للسلطة مقابل المال، ثم حافظ على سيادة بلده وأسدى الخدمة لشعبه؟ وهل أولئك الذين تحولوا الى أجزاء في الماكنة العسكرية للحكام، وأدوات لتكريس الديكتاتورية والظلم، حققوا الاهداف الانسانية في نيل الكرامة والحرية والعدل؟.

من هنا؛ تكون الضرورة القصوى لوجود كابح يحول دون انزلاق العلم وأهله، نحو مغريات السلطة والحكم، وهو لا يتوفر إلا من داخل الانسان العالم نفسه، فهو الذي يجب أن يحدد موقفه من مجالات تطبيق العلم والاستفادة منه، كما نجد انه يقرر اليوم وبكل ثقة واعتداد، دوره المؤثر والفاعل في المجتمع، فمن الواضح أنه لن يتمكن من تحقيق الحرية والكرامة والتطور، اذا كان هو فاقداً للاستقلالية ومكبلاً بسياسات السلطة ومزاجات الحاكم.

وعندما يتحدث الاسلام عن قيمة العلم والعلماء ويجعلهما فوق المال والسلطة، فالغاية تحقيق الهدفية للعلم في التغيير والبناء للأرض والانسان، لذا نجده الرائد في الفصل القاطع بين العلم من جهة، وبين السلطة والمال من جهة اخرى، وهذا ما نلاحظه من آيات الذكر الحكيم، وايضاً في احاديث المعصومين عليهم السلام. ففي آية كريمة، يبين المنزلة الرفيعة للعلم: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}،وفي آية اخرى يحدد المنزلة الانسانية المطلوبة مع استحصال العلم، عندما تتحدث عن الغاية من الخلق: {يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.

هذه التقوى لا تمثل الكابح والضامن لسلامة العلم والعلماء فقط، إنما تحقق المنزلة الحقيقية للإنسان العالم، فاذا نجد تأكيد الاسلام في القرآن الكريم والسيرة المطهرة على أهمية ومحورية العلم في الحياة، والبحث عنه أينما كان ومهما كانت الظروف، فان الغاية القصوى أن يكون هو صاحب السيادة وليس السلطان والحاكم مهما كان، ولنا أن نطالع تجارب الشعوب والأمم التي قادتها أحزاب شمولية أو ضباط بأدمغة ديكتاتورية، ونرى منزلة العلم والعلماء لدى هؤلاء. يقول الامام الصادق، عليه السلام: "اذا وجدتم العلماء على ابواب الملوك، فبئس العلماء وبئس الملوك، واذا وجدتم الملوك على ابواب العلماء، فنعم الملوك ونعم العلماء".

ولمن يريد مصاديق عملية لعلماء جمعوا بين العلم كحالة انسانية، والتقوى، كحالة دينية – اخلاقية، ما عليه إلا ان يراجع سيرة حياة علماء وفقهاء بلغوا من مراتب عليا من العلم والمعرفة ما يمكنهم استثمارها لتحقيق مصالح خاصة، وهذا ما يبحث عنه الحاكم دائماً، فهو يريد دائماً من يجعل علمه وثقافته ورقة رابحة للمقايضة والمساومة، بيد ان اسماءً لامعة تؤكد وجود تفضيل تقوى الله وحفظ الأمانة على كل المغريات والضغوطات على حد سواء، منها سماحة الامام الراحل الكبير السيد محمد الحسيني الشيرازي، وهناك اسماء عديدة من العهود الماضية أبلت بلاءً حسناً، وخاضت معترك الصراع بعد ان وطنت نفسها على التضحيات والضغوطات، لتثبت للمجتمع والأمة القيمة الحقيقية للعلم، والحجم الحقيقي للحاكم، سواءً كان ملكاً او رئيس جمهورية او أي منصب ولقب يلصقه بنفسه. 

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/آذار/2014 - 17/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م