استثمار الكفاءات في العراق الجديد

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: تمتاز الشعوب والأمم في تقدمها وتطورها، باعتمادها عامل الكفاءة والتكنوقراطية في مختلف مجالات التخطيط والعمل والانتاج، وأن يكون "الرجل المناسب في المكان المناسب"، وهذا يعتمد بالدرجة الاولى على الغاية والهدف لدى هذا الشعب وتلك الأمة، فاذا كان مستوى التفكير الى حد تلبية بعض الرغبات والطلبات اليومية، مثل المرتب المالي الجيد، والسكن اللائق والمريح وبعض وسائل العيش التي توفر على الانسان الجهد العضلي وربما الذهني، وتجعله في راحة تامة في معظم الاوقات، فان تقييم مفهوم الكفاءة سيكون بحجم ومستوى هذا التفكير.

أما اذا كان هنالك تطلع بعيد نحو المستقبل وإعداد أرضية صلبة للتقدم والنمو في المجالات كافة، تقوم عليها مشاريع ضخمة ومثمرة تفيد للحاضر والمستقبل، فان الكفاءة تأخذ مكانتها الصحيحة. 

وهذا يفسر وجود بلاد متقدمة أشواطاً بعيدة عن أخرى تقبع في مستنقع التخلف، مع وجود الكفاءات العلمية لدى الجانبين، فليست كل البلدان المتخلفة محرومة من العقول والأدمغة، إنما المشكلة في المنهج والطريقة التي تتم من خلالها الاستفادة من هذه الكفاءات والفرص الذهبية للبناء والتقدم.

ولعل العراق، يكون المثال الأبرز في هذا المجال. حيث عُرف طيلة العقود الماضية بانه ربى علماء وخبراء في مجالات عديدة، إلا ان هؤلاء لم يبنوا العراق إنما نقلوا عقولهم الى البلاد البعيدة ليسهموا هناك في تقدم الطب والهندسة والجيولوجيا وغيرها.

وبين فترة واخرى نسمع في البلاد الغربية عن عالم او خبير من اصول عراقية، يقدم منجزات الى بلده الثاني الذي يقيم فيه، ويحظى هناك بقدر كبير من التبجيل، بل واحياناً يرشحه الناس لأن يكون ممثلاً لهم في مؤسسات الدولة، وهذه خطوة متقدمة اخرى، فالامر لم يعد منحصراً في مؤسسات ابحاث علمية او ورشات عمل او جامعات وغيرها، إنما تعدى الى الاسهام في تقرير مصير شعب في بلد غربي، ربما لم يحلم ذلك الرجل في طفولته أنه سيكون يوماً ما هناك، فضلاً عن ان يكون مسؤولاً حكومياً ويكتسب حب وولاء الجماهير، في بلاد مثل الولايات المتحدة او كندا او هولندا.

ان الاستفادة من الكفاءات العلمية والمهارات ومختلف القدرات الانسانية في طريق البناء والتقدم، ليست فكرة مبتكرة من لدن قادة الشعوب والأمم، إنما هي معادلة أرسى دعائمها الاسلام بدايةً وأثبت للعالم أنها الاساس في عملية البناء الحضاري. ولعل علماء الغرب قبل غيرهم اكتشفوا هذه الحقيقة، بل واستفادوا من التجربة وايضاً من مصدر الإلهام السماوي، وهو القرآن الكريم. فقبل ان يحتوشنا التخلّف وتضربنا الهزيمة، بشرنا القرآن الكريم بقيم التقدم في عديد آياته الكريمة، كما قدم لنا الرسول الأكرم، وأمير المؤمنين، عليهما الصلاة والسلام، نماذج عملية وواقعية من استثمار الطاقات والكفاءات بأقصى درجة ممكنة لتحقيق الاهداف السامية. لهذا العلم مصاديق عديدة باختلاف الظروف الزمانية والمكانية، واختلاف احوال الانسان وتطوراته.

وفي كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين"، يؤكد سماحة المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- أن رسول الله، صلى الله عليه وآله، "أدخل في حكمه جماعة من المشركين السابقين بعد اسلامهم، وجعلهم أمراء في قبائلهم، كما فعل الشيء نفسه، أمير المؤمنين، عليه السلام، حيث أبقى على عدد من الحكام السابقين في مناصبهم، وهم بين أمير وقاضٍ وغيرهم.. إنما استثنى جماعة معدودة مما كانوا مرفوضين من قبل الشعب، كما انهم اثبتوا عدم كفاءتهم..".

واليوم؛ اذا اردنا ايجاد تطبيقات عملية لواقعنا، نجدنا امام مسافة بعيدة جداً، كمن يقف بين الارض والسماء – إن صحّ التعبير- فقد تفصلنا بين البناء الحضاري الشامخ الذي شيده الاسلام، وبين محاولاتنا الراهنة للبناء في بلد مثل العراق او غيره، أشواطاً ومراحل عديدة، تتخللها استحقاقات في مجال الفكر والثقافة والبناء الإنساني وعودة حقيقية الى القرآن الكريم والسيرة المطهرة للمعصومين عليهم السلام، وتجاربهم الثرية.

وهذا بحد ذاته يؤشر الى وجود احتمال للنجاح في محاولة جديدة لبناء الكفاءات في حين، والاستفادة مما موجود من الكفاءات في حين آخر. فهنالك العقول المبدعة محمولة على مشاعر جياشة لحب الأرض والوطن وخدمة الآخرين والتطلع الى المستقبل الواعد، مما يجعل المسؤولية ثقيلة امام المعنيين، بأن لا يتسببوا هذه المرة بقتل الابداع والكفاءة وهي مضمرة في النفوس، كما تزهق الارواح يومياً وبكل بساطة.

وربما هنالك من يتفق معي، بأن صقل المواهب وإطلاق الكفاءات المبدعة، من شأنها الاسهام بشكل فاعل في ايقاف نزيف الدم العراقي ووضع حد للمأساة والحالة الانسانية المريعة، لأن بات واضحاً للجميع إن "وجود الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب" هو الذي يسهم بشكل فاعل فيما نشهده من تداعيات خطيرة في الوضع الأمني والاقتصادي، فضلاً عن الوضع السياسي الذي ينشر افرازاته السيئة في كل مكان.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 19/آذار/2014 - 16/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م