يبدو أن الخطر الذي حذّرنا منه، وحذّر منه كثيرون غيرنا، قد بات
يقرع الأبواب.... أمس، تحدثت وسائل الإعلام عن عمليات فرار جماعية
نفذتها مجموعات مسلحة، تتبع النصرة وغيرها من فصائل السلفية الجهادية،
باتجاه جرود عرسال، صوب الأراضي اللبناني، بعد أن ضيق الجيش السوري
ووحدات الحماية الشعبية ومقاتلو حزب الله الخناق عليهم على جبهة يبرود
-القلمون... والأرجح أن هؤلاء سيجدون طرقاً وممرات لإعادة التموضع في
ملاذات لبنانية، آمنة أو شبه آمنة، وقد ينخرطون في فصلٍ جديد من فصول
"الجهاد العالمي" في لبنان وضده، وانطلاقاً منه، لإعادة الكرة ضد أهداف
في الداخل السوري... الأخبار من لبنان تحذر من خطر وقوع عمليات إرهابية
نوعية كبرى، وتؤكد أن مسلحي المعارضة بدأوا بالتسلل فعلاً إلى العمق
اللبناني.
قبل ذلك، كانت الحدود التركية – السورية تحولت إلى منصات انطلاق
لمقاتلين داعش والسلفية الجهادية صوب الشمال الشرقي لسوريا وصولاً إلى
حلب وإدلب وأريافهما... لكن التقدم الذي حققه الجيش السوري على تلك
الجبهات، واندلاع القتال البيني العنيف بين داعش من جهة وبقية الفصائل
الجهادية من جهة ثانية، دفع بالمسلحين للتمركز على مقربة من الحدود
التركية السورية، وصولاً إلى الداخل التركي، ولقد رأينا أنقرة تعلن
الاستنفار في مواجهة هذا الخطر، وتنفذ أولى عملياتها العسكرية في سوريا
ضد أهداف لهذه الفصائل، وليس ضد الجيش السوري... كما رأينا الوزير
التركي أحمد داود أوغلو يهدد بضرب داعش إن هي عبثت بمقام سليمان شاه،
والد أرطغرل وجد مؤسس الإمبراطورية العثمانية الكائن في بلدة قره قوزاق
بريف حلب.
وقبل ذلك أيضاً، أطاحت "الدولة الإسلامية في العراق والشام" بحدود
سايكس بيكو بين العراق وسوريا، وبات المناطق الممتدة من ريف حلب والرقة
وصولاً للرمادي والفلوجة، ساحة قتال واحدة... انتهك المسلحون خطوط
الحدود ومعابرها بالاتجاهين على حد سواء، ودائماً وفقاً لمقتضيات الحرب
واحتياجاتها، وحالة الفوضى والفلتان لم تتوقف حتى الآن، برغم العمليات
الكبرى التي يخوضها الجيش العراقي، وبدعم من أطراف إقليمية ودولية
وازنة، ضد مقاتلي داعش وأنصارها.
ماذا عن جبهة درعا وجنوب سوريا؟
المعلومات ذات الصدقية، تتحدث عن احتشاد عناصر مسلحة، متعددة
الانتماءات، على امتداد الحدود السورية مع الأردن والجولان المحتل، في
محافظتي درعا والقنيطرة على نحو خاص... وثمة تعويل وتهويل عند الحديث
عن أهمية جبهة الجنوب وما يمكن أن تشكله من ضغط على العاصمة، فضلاً عن
النية التي تبديها أطراف عدة، من بينها إسرائيل، لخلق شريط حدودي أو
منطقة عازلة على غرار ما كان قائماً في لبنان منذ العام 1976 وحتى
الخامس والعشرين من أيار/مايو من العام 2000.
جبهة النصرة وجماعات السلفية الجهادية، وبدرجة أقل داعش، تحتفظ
بوجود مؤثر في هاتين المحافظتين، والمؤكد أن النظام وحلفائه، سيستديرون
جنوباً بعد التفرغ من بعض الجبهات الأكثر حيوية واستراتيجية من وجهة
نظرهم: حلب والقلمون، وعندها قد نجد أنفسنا في وضع نواجه فيه، ما
واجهته دول جوار سوريا الثلاث الأخرى، من محاولات تسرب طوعي أو
اضطراري، لجهاديي المعارضة ومسلحيها إلى الداخل الأردني
وحتى بفرض نجاح خصوم النظام في تشييد "دويلة الجدار الطيب" جنوباً،
فإن النظام وحلفائه، خصوصاً حزب الله، لن يقبلوا بهذا الأمر الواقع
الجديد، والأرجح أن فصلاً جديداً من فصول "المقاومة" سيُفتتح على هذه
الجبهة المتداخلة جغرافياً وديمغرافياً مع عمقها الأردني، وعندها لنا
أن نتخيل ارتداد تحول حدودنا الشمالية إلى جبهة صراع مفتوحة على غرار
جنوب لبنان، أو الحدود الإسرائيلية مع قطاع غزة.
مثل هذا التحدي، لا بد أن يكون أشعل أكثر من ضوء أحمر في دوائر صنع
القرار الأمني والعسكري والسياسي في عمان، لكن "الأخبار الجيدة" هنا،
تقول إن الوضع في الأردن مختلف عن الدول الثلاث، رغم اشتراكها في
مواجهة الخطر ذاته: الأردن لم يتورط كما فعلت تركيا في احتضان جماعات
أصولية ومتطرفة وتسهيل انتقال مقاتليها إلى الداخل السوري، والأردن
بخلاف العراق ولبنان، لديه مؤسسة عسكرية وأمنية متماسكة ومتمرسة، وتعرف
كيف تتعامل مع الخطر الزاحف نحو حدوده الشمالية، التي تشير كافة
التقديرات، بأن أوقاتاً صعبة ربما تكون في انتظارنا هناك.
* مركز القدس للدراسات السياسية |