هنري كيسنجر... والموقف الروسي من أوكرانيا

علي الأسدي

 

المتابع للتغطية الاعلامية للأزمة الأوكرانية بين روسيا والغرب لا يحتاج الى محاضرة عن دور الاعلام في تغيير مواقف الرأي العام وفق الرؤية المستهدفة برغم الوقائع المادية. فكم من الحروب والنزاعات الدموية بين القبائل والدول كان ورائها الشحن الاعلامي الموجه. ويكفي التمعن قليلا بفحوى نشرات الأخبار وتعليقات المراسلين التي تبثها القنوات الاخبارية والصحافة الغربية في العالم التي اصطفت بدون تحفظ مع قادة الناتو لمعرفة الهدف الحقيقي من ورائها وهو تصوير روسيا كدولة غازية عدوانية تستحق الادانة والعقاب.

الغزو ان ترسل جيشا وحاملات طائرات وصواريخ وتمطر البلاد التي ستغزى بالصواريخ والقنابل ثم تقوم باحتلاله واهانة شعبه، شيئا من هذا لم يحدث في أوكرانيا، بل حدث في افغانستان والعراق من قبل الولايات المتحدة وحليفاتها. لم تعبر الحشود العسكرية الروسية الى اوكرانيا، وهي ليست بحاجة الى ارسال قوات الى هناك فلها في قاعدة سيفستابول 25 الف عسكري لم يتحركوا من قاعدتهم البحرية الى خارجها. فمن يغزو من..؟؟

وعلى عكس الهدوء وضبط النفس من جانب القوات الروسية في شبه جزيرة القرم تواصل القوات الأمريكية تكثيف عمليات التجسس ضد روسيا. فقد قامت الهيئة الروسية العامة للتسليح "روس تكنولوجي" الجمعة 14 مارس/آذار اعتراض طائرة استطلاع أمريكية بلا طيار على ارتفاع شاهق فوق شبه جزيرة القرم. ان الطائرة بلا طيار كانت تحلق على ارتفاع نحو 4 آلاف متر وكانت غير مرئية تقريبا من الأرض. وقد أمكن قطع الاتصال بينها وبين مراكز توجيهها الأمريكية من خلال مجمع مكافحة الاتصالات اللاسلكية الالكترونية " افتوبازا".

ووفقا لتقرير صدر مطلع مارس/آذار الجاري، فقد تم نقل فريق من الولايات المتحدة إلى مدينة كيرفوغراد الأوكرانية، حيث تنفذ الطائرات الامريكية بلا طيار غارات الاستطلاع منها نحو شبه جزيرة القرم والمناطق الحدودية الروسية. وحسب التقرير يعتبر هذا الاعتراض الثاني من نوعه فوق شبه جزيرة القرم، وذكر التقرير أن الطائرة أجرت عملية هبوط و"وقعت سليمة تقريبا في أيدي قوات الدفاع الذاتي" في القرم.

وليس من السهل أيضا في خضم هذا الشحن الاعلامي الموجه التعرف على الموقف الروسي بوضوح، لأنه يتعرض لحملة متعمدة للتعتيم على سياسته لمنع الراي العام من معرفة الحقيقة. هدف الاعلام الغربي اظهار روسيا كدولة غازية بالفعل وانها في طريقها لغزو بلدان أخرى مجاورة اذا لم يتخذ بحقها موقفا حازما وقد نجحوا الى حد ما في اقناع جزء واسع من الراي العام الغربي في الرواية المفبركة عن الغزو. لكن اعلامهم يلوذ بالصمت التام عن النشاطات العسكرية الغربية ضد روسيا التي آخرها وقوع طائرة الاستطلاع بدون طيار في ايدي القوات الروسية.

وفي سياق الدور الذي رسم له يصرح رئيس وزراء أوكرانيا من واشنطن التي يقوم بزيارة لها أنه في حالة حرب مع روسيا وقد وضع جيشه في حالة تأهب كامل للرد على الغزو الروسي اذا لم تسحب روسيا جيشها من أوكرانيا. الدافع وراء هذا التصريح هو الايحاء لروسيا بأن الولايات المتحدة التي تستضيفه والتي لها 761 قاعدة عسكرية ثابته ومتحركة في الكثير من مناطق ودول العالم تقف معه في معركته ضد روسيا.

الولايات المتحدة لا تريد أن تصغي حتى للآراء العقلانية التي يبديها بعض قادة الراي وصناع القرار السياسي الغربين من أمثال وزير الخارجية الفرنسي الأسبق رولان دوما ووزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر.

فقد أبدى رولان دوما لمراسل الصحيفة الروسية " روسيسكا غازيتا " بآرائه التي جاء فيها:

" لقد سبق ونبهت الولايات المتحدة والبلدان الأوربية عن رد الفعل الروسي بشأن منظومة الدرع الصاروخية التي قررت الولايات المتحدة نشرها في عدد من البلدان الشرقية، حيث أشرت الى ان روسيا مستعدة لاتخاذ اجراءات مماثلة بنشر صواريخ اسكندر في مقاطعة كالينغراد المحاذية لبولندا. ان تغيير السلطة في أوكرانيا يهدد أمن روسيا، لذلك لم اندهش عندما أعلنت موسكو انها لن تترك الجالية الروسية المقيمة في أوكرانيا اذا ما تعرضت للخطر وهذا ما يجب على الغرب أخذه بالاعتبار. اعتقد ان تغيير السلطة في كيف كان من فعل قوى داخلية وخارجية، لذلك يجب البحث عن مخرج من هذا المأزق."

وبشأن اعلان روسيا عن استعدادها للدفاع عن الجالية الروسية المقيمة في أوكرانيا فال دوما: " انه حق مشروع ومبرر، فهي بذلك تسعى لضمان أمن سكان القرم وأغلبهم من الروس وأيضا حماية أسطولها في البحر الأسود المرابط هناك. ان مصالح روسيا في القرم شرعية وتاريخية وقد أدركت ذلك في نهاية ثمانينيات القرن الماضي مدى أهميتها لروسيا. أما ما أعلنه البعض في أوكرانيا عن نيتهم الغاء الاتفاقية الروسية الأوكرانية بشأن بقاء الأسطول هناك حتى عام 2047 فهو نفس النهج الذي انتهجه "هتلر". ان هذا الشيئ مرفوض في العالم المتحضر، لأنه لا يكون بالامكان تحقيق السلام بعد هذه الخطوة غير المسئولة. وما اعلنه سكرتير الناتو راسموسين عن تقليص التعاون مع روسيا وعن رغبة أوكرانيا للانضمام للحلف فاعتقد انه غير عقلاني واستفزازي لروسيا. آأمل أن يدرك الغرب هذا وألا يسمح بوقوع اخطاء سياسية. هذا الاقليم يجب أن يبقى محايدا ويحصل على ضمان دولي بذلك. "

 هناك أيضا بعض البلدان الاوربية من أعضاء الناتو لا تتفق مع الموقف المعلن لقيادته، ولها أسبابها التي منها اعتمادها على روسيا في استيراد الطاقة ولها مبرراتها الجيوسياسية لتعزيز علاقات مقبولة مع روسيا. وهناك بعض الدول الاسكندنافية تحاول تسوية الأزمة عبر الدبلوماسية الهادئة اضافة الى ألمانيا المرشحة لقيادة هذا الدور، لكن يظهر ان المستشارة ميركيل قد تعرضت لضغوط لمنعها من ذلك كما اتضح من كلمتها الأخيرة يوم 13 مارس الجاري أمام مجلس النواب الألماني.

وكان هنري كيسنجر قد عبر عن آراء مغايرة للموقف الأمريكي بوجه خاص والغربي عامة، فقد نصح كيسنجر أوكرانيا بالتخلي عن موقفها المتردد بين روسيا والغرب، بل أن تقرر ان تكون جسرا بينهما متخذة النموذج الفنلندي مثلا لها في العلاقات مع جيرانها. ففنلندا بالفعل اختارت أن لا تنضم للاتحاد السوفييتي عند تأسيسه كنتيجة للاستفتاء الذي أجرته السلطات الجديدة في روسيا في المناطق التي كانت خاضعة للامبراطورية الروسية فيها بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917. وكانت فنلندا الوحيدة التي أبقت على نظامها السياسي الرأسمالي السائد وبنت علاقاتها الثنائية مع روسيا على أساس الصداقة والتعاون المشترك ولعبت دورا محايدا بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. وهذا ما عناه كيسينجر بالمثال الفلندي في مقاله الاخير.

ففي مقاله في صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية الأحد التاسع من شهر مارس الحالي قال بكل وضوح: " المشكلة الرئيسية حول تقرير مصير أوكرانيا هي أن النقاش العام حول هذه المسألة بطريقة أو بأخرى سوف يؤدي إلى المواجهة. هناك خياران فقط لاوكرانيا اما الانضمام الى الغرب أو الى الشرق. ولكن مثل هذا النهج لا يسمح بالخروج من الأزمة الحالية، بل ويضع أوكرانيا في موقف ضعيف للغاية في المستقبل. على اوكرانيا ان تقتدي بالمثال الفلندي لتكون جسرا بين الغرب والشرق. لذا يجب على الغرب القبول بواقع بأن أوكرانيا لن تكون أبدا بالنسبة لروسيا مجرد دولة أجنبية وذلك انطلاقا من التاريخ الروسي الذي بدأ في كييف روس، حيث من هناك انطلقت العقيدة الروسية. ويجب على الاتحاد الاوروبي أن يعترف بان بيروقراطيته البطيئة وعدم اعتماده على التفكير الاستراتيجي في بناء العلاقات مع أوكرانيا لعب دورا كبيرا في تحويل المفاوضات إلى أزمة جيوسياسية."

لكن رغم تلك الآراء البالغة النضوج يستمر التنديد بموقف روسيا وتكثيف حملة فرض العقوبات الاقتصادية عليها لثنيها عن السير في سياسة الردع التي تتبعها للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية من جانب، ومن الجانب الاخر تضييق الخناق على الشعب الروسي لدفعه لثورة على غرار الثورات الملونة التي افتعلتها وقادتها الدول الغربية في دول المعسكر الاشتراكي السابقة للاطاحة بالحكومات التي ترفض الاذعان للسياسة الامريكية.

 فرض العقوبات على روسيا له جوانبه العكسية التي تعمق الخلافات بين دول أوربا، فاسبانيا قد أعلنت عن رفضها القاطع لمثل تلك الاجراءات، كما ان رؤساء دول أوربية أخرى متأرجح من العقوبات، لأنها تهدد الانتعاش الاقتصادي في بلدانهم.

اما روسيا فيمكن أن ترد على العقوبات الغربية بالمثل فهي تغطي 25% من احتياجات أوربا من الغاز، وان 50% من صادرات الغاز الروسي الى أوربا تمر عبر أوكرانيا. واذا ما قررت أوربا تخفيض اعتمادها على الغاز الروسي فان الصين والهند وباكستان مرشحة للحلول محل أوربا بكل سهولة. شركة غازبروم الروسية تقلل من شأن التهديدات حول المقاطعة، اذ ليس هناك في الواقع منافس للغاز الروسي في أوربا. وما يجري الحديث عنه في وسائل الاعلام عن الغاز الصخري المنوي انتاجه في امريكا ودولا اخرى فهو ليس اكثر من حشو اعلامي تثيره شركات المضاربة في النفط لتحقيق ارباح سريعة على حساب المواطن العادي.

النفط الصخري له ثلاثة اصناف:

1- النفط الصخري – ويوجد في الولايات المتحدة

2- النفط الرملي - ويوجد في كندا

3- النفط الثقيل - ويوجد في فنزويلا

تعتبر تكاليف انتاج هذ الصنف من النفط عالية جدا تصل الى 80 دولارا للبرميل ويعني ذلك ان سعره في المتوسط سوف لن يقل عن 90 دولارا. وينطبق نفس الأمر على الغاز ايضا. ويرى كبير خبراء النفط والغاز الروسي رستم تانكاييف ان سيناريو انخفاض اسعار النفط ضئيلة وانها لن تنخفض كثيرا. ان شركة غاز بروم الروسية تشكك في قدرة الخيارات الثلاثة لانتاج الغاز والنفط على اشباع الطلب الأوربي من الانتاجين، لأن أوربا ستقع بنفس الخطأ الذي وقعت به بولندا حيث فشلت استثمارتها لاستخراج الغاز من الطين الصخري. وان أوربا ستكون أكثر اعتمادا على روسيا، لأن انتاج الغاز الصخري لن يغطي 10% من احتياجات أوربا حتى عام 2030.

 من الجانب الثاني ان الغاز الروسي المصدر عبر الأنابيب الى أوربا لم يتأثر بالأحداث السياسية إبان الحرب الباردة بالرغم من سوء العلاقات بين الشرق والغرب حينها وليس من المحتمل أن يتاثر الآن أيضا. ومع ان المتطرفين الأوكرانيين يطالبون بمقاطعة الغاز الروسي ومنع تصديره عبر أوكرانيا وهو امر غير عملي، لكنهم لو فعلوا فانهم سيعاقبون شعبهم اضافة الى ان بولندا وهنغاريا المجاورتان يعتمدان على الغاز الروسي. علما ان أوكرانيا مدينة بـ 2 بليون دولار عن فواتير استهلاك الغاز الروسي.

ومن الجانب الثالث لن تقلل المصارف والشركات الغربية من تعاملاتها التجارية مع المؤسسات التجارية وشركات النفط والغاز الروسية. ويعود السبب في ذلك الى ان الشركات الروسية مدينة للبنوك الأمريكية بمبلغ يصل الى 200 بليون دولار، وشركة الغاز الروسية " غازبروم" وحدها مدينة لتلك البنوك بـ 36 بليون دولار، وأكثر تلك الديون مضمونة بموارد صادرات الغاز. وهناك شركات أمريكية مثل أوكسون وبريطانية مثل بي بي وشركة شل الهولندية لها اسهمها في شركات النفط والغاز الروسية، ولها أيضا استثمارات في روسيا وهي غير قلقة بشأن مستقبل نشاطاتها فيها.

تخلي الحكام الجدد لأوكرانيا عن الاتفاق الذي ابرمته حكومة فكتور يانيوكوفيج المقالة مع روسيا قد تضمن قرضا روسيا بلغ 15 بليون دولار وتخفيضا في سعر الغاز المصدر اليها بحدود 38% وهو تخفيض لم يقدمه لهم احد. أما الاتفاق المبرم مع الاتحاد الأوربي بشروطه القاسية فسيعاقب الشعب الأوكراني ويدفعه الى الفقر والفاقة عندما يبدأ العمل بتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي.

ومن بين تلك الشروط تنفيذ اجراءات التقشف الاقتصادية التي تتضمن تقليص البرامج الاجتماعية وتسريح عددا من موظفي القطاع العام وتخفيض أجور المتبقين وتعويم العملة المحلية، وبعبارة أدق ان صندوق النقد الدولي سيشدّ الخناق على مواطني أوكرانيا. وكانت البداية اعلان رئيس الوزراء ياتسينويوك تخفيض المعاشات التقاعدية للأوكرانيين بنسبة 50 بالمائة ورفع أسعار الغاز والكهرباء بنسبة 50%.

احد المواطنين الأمريكيين قد علق على دور بلاده في حربها الاعلامية على روسيا قائلا: ما يشغل اكثر الأمريكيين هو الحصول على فرصة عمل يضمنون بها موردا يشبعون به حاجات عوائلهم في لقمة العيش وتسديد بدل ايجار مساكنهم ودفع قوائم خدمات الغاز والكهرباء والماء. فلاديمير بوتين كوطني يسعى من أجل جعل بلده محترما وقويا، انه اختبرنا في كل خطوة يخطوها. لماذا نفاجأ بما قام به؟

بوتين لم يفقد صلته بالواقع، بل انه بالضبط يعرف ما يقوم به، انه يعرف ايضا ان قادتنا يتكلمون بحزم، لكنهم لم يعودوا قادرين عل فعل شيء. أمريكا تعبت من خوض الحروب نيابة عن الآخرين. كيف يمكن لنا التبرع بالمال الذي نقترضه من الصين الى دول اخرى في وقت لا يستطيع مواطنونا الحصول على عمل ويعانون الجوع والتشرد؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/آذار/2014 - 14/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م