شبكة النبأ: عندما نسمع بمفردة "الرجل
القوي"، من حيث المفهوم والممارسة، يتبادر الى الذهن فوراً؛ الرئيس
والزعيم الذي يمتلك جهاز مخابرات بخبرات عالية، وإعلام كفوء ومؤثر،
ومصادر تمويل هائلة، كأن تكون آبار نفط او غاز او معادن مختلفة. الى
جانب مواصفات ذاتية خاصة تجذب الاهتمام، بما يسمى بـ"الكاريزما". هكذا
شخص بامكانه كسب الولاء الجماهيري وضمان فترة طويلة في قمة السلطة.
بينما في الدول المتحضرة والمتقدمة، فان للرجل القوي مفهوماً آخر ينصرف
الى المنهج والقرار، وإن كانت ثمة قوة لشخصية سياسية، فانها تبذل
للتنافس على تقديم أفضل الخيارات في ظروف السلم والحرب، ورسم حاضر
ومستقبل آمن وسعيد للشعوب. فذاك السياسي المخضرم "ونستون تشرشل" الذي
كتب عنه الكثير واصفين إياه بانه كان "الرجل القوي" لبريطانيا، لكن على
من..؟ ليس على الشعب البريطاني، إنما في مواجهة المانيا الهتلرية
وإدارته بنجاح للحرب العالمية الثانية. وكذلك الزعيم الفرنسي "شارل
ديغول"، فهو الآخر كان يحمل صفة "الرجل القوي"، لإدراته "حكومة فرنسا
الحرة" من بريطانيا، إبان الحرب ذاتها، وعرف بمواقفه الجريئة أمام
بريطانيا والولايات المتحدة بعد أن حاولوا تحجيم فرنسا وتجاهل مكانتها
الإقليمية والدولية. طبعاً؛ هنالك اسماء عديدة لامعة اتصفت بالقوة
لخدمة الشعب والوطن.
والسبب في عدم وجود المعنى الثاني لدينا، يعود الى ظروف تاريخية
وتراكمات نفسية واجتماعية، خلقت شعوراً باليأس من كل شيء ثم الهزيمة
النفسية، وهذا ينسحب بوضوح على المجتمع العراقي لأنه لم يتخلص من حرب،
إلا وانزلق في أخرى، وحالياً يخوض الحرب ضد مع الارهاب الى أجل غير
معلوم. أما النتيجة فهي حتى الآن، هزائم وخسائر فادحة في الارواح
والممتلكات. هذه المعطيات هي التي هيئت الاجواء والارضية لولادة "القائد
الضرورة"!، او "الرجل القوي" في العراق، وربما يبرر البعض هذه الظاهرة،
ليحفظ هكذا رجل، البلد وشعبه من المخاطر المحدقة. وصدق أحد المفكرين
الإسلاميين حينما قال مؤخراً: "إن الشعب الضعيف يبحث عن الحاكم القوي،
بينما الشعب القوي يرى قوته في نفسه..".
أيّ رجل..؟ وأية قوة..؟
مما مرّ يتضح أننا، ربما نكون في هذه المرحلة بحاجة الى الرجل القوي
لبناء البلاد وإعادة أعمارها وإصلاح ما أفسدته الديكتاتورية في الأصعدة
كافة. والسؤال الذي ينتظر الإجابة السريعة: أي رجل ذاك؟
لقد جرّب العراقيون في تاريخهم المعاصر، الرجال الأقوياء الذين
تسلقوا طريق الحكم وبقوا لفترة معينة، ثم تدحرجوا الى الهاوية، وقد
أثبتوا قوة شخصيتهم في شراء الولاء وكسب الجماهير، كلٌ على طريقته
الخاصة، وكان الدليل على الولاء والحب، هو التصفيق والهتاف بالحياة
والمجد، لكن عندما تحين ساعة المواجهة بين "القوي"، و"الأقوى"، فجأة
يتغير كل شيء. فينسحب الناس الى بيوتهم ينتظرون "البيان رقم 1"، ولم
نجد أن العراقيين في تاريخهم المعاصر دافعوا عن رئيس او زعيم عندما
تعرض للانقلاب العسكري والموت بأبشع الصور، والسبب واضح، فذلك الولاء
والحب جاء بالتهديد تارةً، وبالترغيب تارة اخرى، وإذن؛ لا وجود لأصالة
في قوة الحاكم، إنما هي حزمة من التكتيكات والإجراءات الصارمة التي
تكرس حالة "الأمر الواقع"، ولا عليها بالخلفية التاريخية أو الهوية
الثقافية والحضارية للشعب، فكل شيء يبدأ من حيث يقف هو على الأرض.
أما عن "قوة الرجل"، فهي متوفرة في بلد مثل العراق.. فالثروة
النفطية الهائلة تكفي لأن تمنح الحاكم قوة قاهرة لا تضاهى، وهي التي
تغذي مراكز قوى اخرى تكون في خدمة النظام الحاكم، مثل الاعلام والأمن
والجيش والمخابرات والدوائر الحكومية الاخرى.
وفي بلد مثل العراق، يفتقد حتى الآن لقانون الاحزاب وقانون للاعلام،
وقوانين عديدة تتعلق بالاقتصاد والمجتمع، وكل ما من شأنه المساعدة على
أنجاح التجربة الديمقراطية، فان فكرة "الرجل القوي" تتجه بسرعة فائقة
نحو "الديكتاتورية"، وهذا ما حذر منه عديد المفكرين وعلماء الدين، وفي
مقدمتهم سماحة المرجع الديني الإمام الراحل السيد محمد الحسيني
الشيرازي – قدس سره- حيث يشير الى مواصفات الحاكم في اطار النهج
الاسلامي الصحيح بأن لا ديكتاتوراً، مستشهداً بوصية أمير المؤمنين عليه
السلام، لعامله على مصر، مالك الاشتر، بأن "لا تكن عليهم سبعاً ضارياً".
بمعنى ضرورة تحجيم وتقنين مصادر القوة لدى الحاكم، لا أن تكون مطلقة.
وفي التاريخ لدينا مثال بارز آخر من عهد النبي الأكرم، صلى الله عليه
وآله، عندما اتسعت مساحة الدولة الاسلامية واصبح هنالك قادة عسكريون في
الجيش الاسلامي، وكان منهم "خالد ابن الوليد"، وفي تلك الحادثة
التاريخية قتل هذا الشخص جماعة من الكفار بعد أن اعلنوا اسلامهم، فكان
رد فعل النبي شديداً ومستنكراً للعمل، ورفع يديه الى السماء وتبرأ من
فعلة خالد، وأمر بتعويض ذوي الضحايا.
وفي السياق التاريخي ايضاً، فان الامام علي عليه السلام، ايضاً كان
يتصف بالقوة، وكان الرجل القوي دائماً وعلى طول الخط، وهذه القوة لم
تلتصق به يوماً، إنما كانت تنساب للحياة العامة من حوله، من فقراء
وايتام، مروراً باصحاب الحقوق المهدورة، وحتى التصدّي بقوة للانحراف
والبغي والطغيان.
واعتقد ان العراق، بحاجة الى أقل بكثير مما قدمه لنا الامام من
نموذج متكامل وواسع الأبعاد، فالناس تحتاج البناء والأعمار وفرص العمل
والتوزيع العادل للثروة.
جنود الرجل القوي
عندما يكون لدينا رجلاً قوياً في طرق البناء والاعمار وممثلاً
حقيقياً لطموحات الشعب، فمن المؤكد انه بحاجة الى رجال وجنود يؤازرونه
ويعملون بين يديه، وصولاً على الاهداف المرجوة. وهذا ما نلاحظه في
الأمم والشعوب التي تطورت بقادة ناجحين، فحققت الطفرات النوعية في
الانتاج والابداع، كما نجحت في تصدير ثقافتها وحضارتها الى الآخرين.
ومن هؤلاء؛ العلماء والمثقفين والفنانين وابناء الطبقة المتوسطة في
المجتمع. وقد ذكرنا في مقال سابق، إن هذه الطبقة هي التي تقف دائماً
بين الطبقة الارستقراطية وبين الطبقة المحرومة، وتكون عامل حسم في أي
عملية إصلاح أو تغيير في الدولة، وهي نفسها التي يخشاها دائماً الحكام
من ذوي النزعات الفردية والديكتاتورية.
من هنا نجد أن الحاكم والرجل القوي يجند الاعلام والأمن وثروات
البلاد، لتعزيز موقفه السياسي وتثبيت دعائم حكمه، ليس هذا وحسب، بل انه
يتوسل بشريحة اجتماعية واسعة تواكب الخطاب الاعلامي المجيّر والمدفوع
الثمن، كما تبارك للاجراءات الامنية والعسكرية، وذلك بهدف صنع رأي عام
خاص لهذا الحاكم القوي، مما يعطيه الثقة بالنفس لأن يواجه منافسيه في
الداخل أو اعدائه في الخارج.
القوة للعراق وليس للرجل
لمن يتابع الخطاب الإعلامي الغربي المعني بالوضع العراقي، يجد انه
الاكثر ترويجاً لفكرة "الرجل القوي" في العراق، ومردّ ذلك الى التجاهل
المقصود للبلد بأكمله بما فيه من قدرات بشرية ومادية ومكانة حضارية.
ولطالما نشرت الصحافة الأمريكية او البريطانية تحقيقاً او مقالاً حول
هذه الظاهرة في العراق، على انها من الموضوعات الاساس والمصيرية في
العراق، فاذا وجد "الرجل القوي" كان العراق بخير. وهذا مما لا ينبغي
التأسف عليه، فربما تكون هذه احدى الطريق الوحيدة لحفظ المصالح في
العراق، والمسألة لا ترتبط بالضرورة باسم معين، إنما ينسحب على كل رجل
سياسة باحث عن القوة، ربما حتى لو كان وزيراً او نائباً، فيكون هو
"الرجل القوي" والمؤثر في نظر الاطراف الخارجية المعنية، وبالتالي يكون
جديراً بالاحترام والدعم.
وللحقيقة نقول: ان العراق لن يكون بحاجة الى "الرجل القوي" عندما
تتوزع مصادر القوة في البلد على مؤسسات الدولة، وايضاً على التنظيمات
والجماعات المشكلة للمجتمع المدني والمؤسسات الثقافية والعلمية، مما
يسهم في مواجهة أي مشكلة او ازمة على الصعد كافة، بمعنى أن الجميع
سيكون قادراً على حل المشاكل كلٌ باختصاصه، ويشعر انه مساهم فعال ومؤثر
في تحريك عجلة التقدم الى الأمام، وهذا بحد ذاته يزيح عن وجه العراقيين
حالة الضعف والإحباط واليأس. |