في الطريق مع فاطمة (ع): قوة التعبير

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: لم تمضِ سوى ساعات على وفاة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، وفقدان الإنسانية لخاتم الأنبياء، وانقطاع وحي السماء عن الأرض، إلا وأجواء الغموض والاحتقان والإرهاب خيمت على المسلمين. فقد اتفقت كلمة البعض على ان لا يكون للأمة من بعد نبيها، الخلف الصالح الذي يضمن لهم الأمن والاستقرار والرفاه والمضي على النهج المحمدي. هذا الانحراف الخطير والكبير، كان بحاجة الى شجاعة كبيرة في الرد والقوة في التعبير عن هذا الانحراف لأبناء ذلك الجيل، ومن ثم للأجيال القادمة وللتاريخ.

ربما تكون الحكمة الإلهية ان تكون ابنة النبي المصطفى، الصديقة الزهراء عليها السلام، هي من يتقلّد هذا الدور التاريخي العظيم، فقد حملت هموم النبوة في مواجهة عدم نضوج الايمان واكتماله في نفوس السواد الأعظم، كما حملت هموم الإمامة في كشف من نكث ببيعتها يوم الغدير، وتنكّر لها، وكان لسان حال الامام علي عليه السلام، أنه "في العين قذى والحلق شجى..".

فاذا كانت التحالفات القبلية والعشائرية وتحكيم القيم الجاهلية، ومنها لغة القوة والقسوة، تفرض نفسها على واقع المسلمين، فان لدى الزهراء عليها السلام، سلاح البيان وقوة التعبير لاستنهاض الضمائر وإحياء النفوس، وربما مساعدة بعض من "ران على قلوبهم" لإزالة ترسبات الثقافة الجاهلية ليؤوب الى رشده ويتخذ الموقف الصائب.

وقبل التطرق الى جهاد الكلمة للصديقة الزهراء عليها السلام، أرى من الجدير التعرّف على حقيقة هامة، وهي أن مذهب التشيع يعرج بجناحين: الأول: الفكرة، والآخر: العاطفة.

فالجناح الأول يضم العلم والحكمة والقيم المُثلى والعقلانية والفهم الصحيح والمنطقي للدين. فيما يضم الجناح الآخر، الحماسة والمشاعر الإنسانية النبيلة، وما يدعو الى التضحية والتفاني والولاء. وإذن؛ فالجناح الأول يتمثل في كلمات الوحي وكلمات الرسول الأكرم وأهل بيته، بدءاً بأمير المؤمنين، وانتهاءً بالإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عليهم السلام.

بينما الجناح الآخر يتمثل في الفهم والتعاطف والدفاع عن حقوقهم وعمّا بذلوه – أهل البيت- من أجل الدين من الطاقات الجبّارة والدماء الزكية، حيث لم يدعوا طاقة في أنفسهم ولا شيئاً أو إمكانية لديهم إلاّ بذلوها في سبيل وجه الله الكريم.

من هنا؛ نعرف أن الزهراء، وخلال بيانها اللاهب بوجه الانحراف والزيغ، في مناسبات عديدة، ومنها "الخطبة الفدكية"، كانت تسلط الضوء على الزوايا المظلمة في النفوس والاذهان من القيم والمبادئ والاحكام التي جاء بها والدها المصطفى وضحى من أجلها، بما لم يتحمله أي نبي من قبل..

إذن؛ قوة التعبير والبيان في ظروف الإرهاب والاضطهاد والدموية، لم يكن مجرد رد فعل عاطفي من امرأة مهضومة حقها وحق زوجها. إنما جاء الرد بمنزلة مدرسة متكاملة للتعبير الشجاع عن حقيقة الدين وإزالة كل الظواهر والافكار الدخيلة التي حاول ويحاول أدعياء الدين إلصاقها به لتمرير مصالحهم السياسية والفئوية.

الكلمة الشجاعة

لقد استغلت الصديقة الزهراء عليه السلام، تجمهر المسلمين في المسجد، لتخاطبهم بكلمة الشجاعة والصدق التي هزت المشاعر والضمائر. فبعد ان شقّت الصفوف، وضرب لها ستراً، جلست بين عدّة من النسوة، ثم أنّت أنّة شديدة طرقت أسماع الحاضرين، فضجّ المسلمون بالبكاء. ثم هدرت بتلك الخطبة العصماء المعروفة بـ "الفدكية"، وبدأتها بتذكير الناس بما كانوا عليه من الواقع المرير في الجاهلية، ثم ما هم عليه اليوم، وما قاموا به بعد حصولهم هذه النعمة بفضل النبي الأكرم.. "أيها الناس..! اعلموا أني فاطمة، وأبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تَعزُوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخ ابن عمي دون رجالكم، ولنعمَ المعزيُّ إليه صلى الله عليه وآله وسلم، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثَبجَهم، آخذاً بإكظامهم، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام وينكب الهامَ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرَّ الليلُ عن صبحه، وأسفر الحقُّ عن مَحضِه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلّت عُقدُ الكفر والشقاق، وفُهتم بكلمة الإخلاص في نفرٍ من البيض الخماص، وكنتم على شفا حفرةٍ من النار، مُذْقةَ الشارب، ونُهزةَ الطامع، وقُبسةَ العِجلان، وموطأَ الأقدام، تشربون الطرُقَ، وتقتاتون الورق، أذلّة خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم..".

ولم تتوقف الصديقة الطاهرة، في بيان الواقع الفاسد الذي يعيشه المسلمون، حتى أيامها الاخيرة، حيث أجابت على نسوة من المهاجرين والانصار يزرنها في علّتها، ويسألنها عن حالها فقالت: "أصبحت والله، عائفة لدنياكنَّ، قالية لرجالكن لفظتهم بعد إذ عجمتهم، وسئمتهم بعد أن سبرتهم، فَقُبحاً لأفون الرَّأي، وخطل القول، وخَوَر القناة، }ولبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون{، لاجرم والله لقد قلّدتُهم ربقتها، وشننتُ عليهم غارها، فجدعاً ورغماً للقوم الظالمين.. ويحهم أَنَّى زحزحوها عن أبي الحسن، ما نقموا والله منه إلاّ نكير سيفه، ونكال وقعه، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافّوا عليه من زمام نبذه إليه رسول الله، صلى الله عليه وآله، لاعتلقه، ثمَّ لسار بهم سيرة سحجاً، بجحاً، فإنه قواعد الرسالة، ورواسي النبوَّة، ومهبط الرُّوح الأمين، والطَّيبين بأمر الدين والدُّنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين، فهلمَّ فاسمع، فما عشت أراك الدَّهر عجباً، وإن تعجب بعد الحادث فما بالهم؟ بأيِّ سند استندوا، أم بأية عروة تمسَّكوا، }لبئس المولى ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلا{. استبدلوا الذنابي بالقوادم، والحرون بالقاحم، والعجز بالكاهل، فتعساً لقوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً. }ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، أفمن يهدي إلى الحقِّ أحق أن يُتبع أمَّن لا يَهِدي إلا أن يُهدى، فمالكم كيف تحكمون{".

إن قلنا إن كل هذه الشحن للبلاغة والقوة في التعبير، لم يغيّر من واقع الأمة ولم يغير المواقف آنذاك، ومضى الانحراف نحو مزيد من الانحدار، فان آثار تلك الكلمات اللاهبة والنافذة ما تزال تثير النفوس والوجدان حتى اليوم، والى يوم القيامة. ولذا نجد من يكتب عن هذه الشخصية العظيمة، تحت عنوان "فاطمة.. وتْرٌ في غمد"، وهو لا ينتمي الى مذهب اهل البيت، عليهم السلام، ليكون الكاتب والأديب اللبناني "سليمان كتاني" هو الحائز على الجائزة الاولى التي رصدتها "مكتبة العلمين" لبنان لأفضل وأروع كتاب عن الزهراء، عليها السلام.

سلاح البكاء

لم تكتف الزهراء عليها السلام، بالتعبير عن مدى الفاجعة التي ألمّت بالأمة، بكلماتها البليغة وخطبها الحماسية، إنما واصلت الطريق بالبكاء والنحيب الذي لم ينقطع منذ الساعات الاولى لرحيل النبي، وحتى وفاتها، عليها السلام.

تلك الدموع والآهات التي كانت تطلقها عليها السلام، كانت بالحقيقة تمثل رسالة بليغة الى النفوس والضمائر بحجم المأساة التي يواجهها المسلمون في حاضرهم ومستقبلهم وهم عنها غافلون. فإثارة العواطف والمشاعر الانسانية لها دور كبير في تغيير المواقف، وخلق رأي عام جديد لا يرتضيه الباحثين عن السلطة والحكم. لذا نقرأ في التاريخ أن أهل المدينة شكوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ما يصلهم من صوت البكاء والنحيب، واقترحوا عليه – كما في التاريخ- أن تبكي إما ليلاً أو نهاراً..!. بيد أنها لما سمعت بذلك اشتد بكاؤها وأبت إلاّ أن تبكي على والدها أبداً، حتى تلتحق به، وأضافت: ".. ما أقل مكثي بين أظهرهم"!.

ولكل باحث منصف أن يستفهم كيفية تأثير بكاء فاطمة على أهل المدينة.. وهل ان جميع سكان المدينة كانوا يسمعون حقاً، بكاء الزهراء عليها السلام..؟!. الامر يعزز الاعتقاد بوجود دوافع سياسية واضحة من طلب إسكات ذلك الصوت الشجيّ والمؤثر والخطير على النفوس.

مع ذلك، بنى الامام علي عليه السلام "بيت الاحزان" لا ليكون مكاناً منعزلاً تبكي فيه الزهراء عليها السلام، بعيداً راحة الناس وهدوئهم، إنما ليكون جرحاً عميقاً في المشاعر الانسانية على مر الاجيال والتاريخ. فتلك الدموع والآهات هي التي أسهمت مع عوامل اخرى في كشف الحقائق وإماطة اللثام عن الزيف والانحراف الذي وقف خلفه الحكام والأنظمة السياسية لتحكم باسم الاسلام.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 15/آذار/2014 - 12/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م