الثورة والمصادفة، أسئلة حائرة.!

صالح الطائي

 

لا يمكن لنظرية الاحتمال التي تُدرّس في علم الإحصاء أن تغطي مسألة ثورة ملايين العرب في مساحة واسعة من جغرافية العرب وفي بلدان مختلفة وأوقات متقاربة؛ نتيجة قيام بائع متجول اسمه محمد بوعزيزي بالانتحار حرقا نتيجة إهانة وجهتها له ضابط في الشرطة التونسية؛ اعتقد هو أنها ظلمته، واعتقدت هي أنها كانت تؤدي واجبها القانوني. وهل يمكن لعملية انتحار سبق وإن تكررت في بلداننا عشرات ومئات المرات يوميا وأغلبها نتيجة ظلم الحكام أن تكسر حاجز الخوف التاريخي بشكل يدفع الجماهير لإسقاط الحكومات؟ وتاريخيا كان المغرب العربي ولا زال مفصول تقريبا عن المشرق العربي فلا أخبارنا تصل إليهم ولا أخبارهم تصل إلينا، ولا يوجد اختلاط أو تزاور أو سياحة أو تجارة بين القسمين كما هو بين مدن الشرق، فكيف تسنى لما حدث في تونس أن يلهب خيال الجماهير في اليمن والمشرق؟

كما لا يمكن لنظرية الاحتمال أن تشرح كيف نجحت مجاميع من الجماهير الشبابية التي سيقت تحت ضغط سري لتتواجد في ميدان السابع من نوفمبر في تونس وميدان التحرير في مصر وميدان اللؤلؤة في البحرين؛ بتغيير خارطة سياسية لم يسبق أن غيرت بمثل هذا الأسلوب عبر التاريخ. وحتى لو خالفنا المنطق وآمنا أن صحوة مفاجئة دفعت الجماهير التونسية كرد فعل على جريمة انتحار بوعزيزي لتثور ضد النظام، فمن المستحيل أن نصدق أن هذه الصحوة تتحول إلى فعل يتجاوز تأثيره الحدود ليشعل نفس الشرارة بنفس الشعارات في بلدان أخرى مثل مصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين؛ التي لم يحرق بوعزيزيها نفسه.!

ومن قبل كانت الاحتجاجات والمظاهرات تقتصر عادة على مدينة ما داخل الدولة لا تغادر حدودها حتى إلى المدن المجاورة لها، ولا تجد عونا من أقرب المدن إليها. فلماذا انتهت كل المظاهرات والاحتجاجات السابقة على محدوديتها بعد يوم أو يومين من اندلاعها، واستمرت هذه المرة بعناد شديد إلى أن أسقطت النظم؟ ولماذا تحولت في هذه المدة إلى غضب جماهيري عارم شمل كل البلاد التي نشب فيها، وانتقل إلى البلدان الأخرى كالنار في القصب اليابس؟ ولماذا فشلت الاعتصامات والمظاهرات والاحتجاجات السابقة التي تكررت مئات المرات، لتنجح هذه المرة بالذات نجاحا ساحقا؟ ولماذا لم تتحرك القوى الشبابية في بلدان عربية أخرى تعاني نفس الظروف السيئة للبلدان التي حدثت فيها الانتفاضة؟ لماذا سكتوا وهم يعانون نفس الآلام والظلم والتسلط، وبعضهم يعيش دون مستوى خط الفقر في بلدان ثرية ذات أنظمة حكم عائلية قمعية ظالمة تمثل قمة الدكتاتورية؟

عبر التاريخ الممتد منذ فجر الإسلام وإلى هذه الساعة؛ كان حكامنا العرب قساة مستبدون ظالمون، وكانت جماهيرنا مقموعة مسلوبة الإرادة مستلبة الحقوق ولم يثر منهم أحد حيث كانت القوات المسلحة التي تحمل نوعا من التصور لما بعد التغيير هي التي تتولى عملية التغيير في الأقل خلال الثمانين عاما الماضية، فما بدا مما حدا لتتولى الجماهير الشبابية زمام التغيير، وتتحول القوات المسلحة إلى معارضة للثورة أو تجلس على خط الحياد؟ وهل يعقل أن تتحرك هذه الأفواج الجماهيرية الكبيرة الغاضبة، وهذه الكتل البشرية غير المسبوقة؛ منادية بالتغيير ومطالبة بالديمقراطية وهي لا تملك أجندة سياسية تلتف حولها، ولا تفهم فلسفة الثورة، ولا تحمل مشروع حكم، أو نظرية لإدارة البلاد؟ وحتى لو آمنا جدلا بان ما حدث كان مخططا له داخليا ونفذ عفويا فلابد وان تكون هناك صورة أو تخيلا للبديل المحتمل، فلماذا غاب هذا البديل وسيطرت الحركات الإسلامية المتطرفة وجيرت انتصار الفوضى وهزيمة الحكام لصالحها، وحرمت كل القوى الأخرى من الإفادة من التغيير؟

هذا الذي أسموه "الربيع العربي" وهو الذي تحركت الكتل الجماهيرية الشبابية تحت خيمته، هل هو إنتاج عربي بحت؟ هل مكتوب على غلافه الخارجي "صنع في البلدان العربية" أم هو بضاعة جاهزة للتصدير أنتجت في الدهاليز المظلمة للسياسة الدولية ومنظومة المشاريع السرية خصيصا للبلدان العربية بتوصية من الماسونية؟ وهي التي حركه بالاتجاه الذي تريد وفق تخطيط مرحلي غاية في الدقة؟

ما الآصرة التي ربطت بين الجماهير المتحركة في جغرافيات بعينها وفقدت مع جغرافيات أخرى؟ وإذا كان النفس الثوري قد انتقل من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن إلى البحرين إلى سوريا، فلماذا توقف عند حدود البحرين، ومن منعه من دخولها، من حال بينه وبين وجبات التغذية الفكرية والمالية والإعلامية التي شملت البلدان الأخرى وتوقفت عند حدود البحرين، ولماذا هذا التمايز وهذه الانتقائية؟ ولماذا لم يخترق حدودا أخرى تبدو بيئة طبيعية مناسبة للتغيير؟

وإذا كان الحلم في التغيير نحو الأفضل هو الذي دفع الجماهير إلى الثورة؛ فلماذا لم يلقي الكثير من الشباب الثائر في الفصائل المسلحة سلاحه، وبقي محتفظا به يشهره عند كل بادرة فيعيد السيطرة على المدن، ويتناحر مع منافسيه.؟ لماذا لا زالت الدماء تسفك في كل تلك البلدان التي وقع فيها التغيير؟ لماذا لم تستقر الأوضاع؟ لماذا لم يسهم الشباب الثائر في عملية البناء والتجديد؟

وإذا كانت الجماهير قد خرجت عفويا لتسقط النظام وهي تحلم بغد مشرق، فلماذا تنازلت عن حلمها وتركت الساحات وانسحبت إلى المجهول؟ لماذا تعيش كل البلدان العربية التي تمرد شبابها حالة من الفراغ والفوضى واليأس والتخبط وظروفا مأساوية أسوأ كثيرا مما كانت عليه قبل الثورة؟ لماذا تحولت تلك البلدان إلى ملاذات آمنة للإرهاب والتطرف الديني؟

وبعد هذا، بعد كل هذه الفوضى التي مرت علينا والتي ننتظر وقوعها في المستقبل القريب، أين سنصل؟ وماذا ينتظرنا؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13/آذار/2014 - 10/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م