فقه الدولة: في وجوب بناء الدولة على أسس السلام

الشيخ فاضل الصفّار

 

في بحثه لفقه الدولة دخل سماحة الشيخ فاضل الصفار موضوع الجهاد وانواعه حيث بحث ذلك في ثلاث مسائل، المسألة الأولى: في الجهاد الإنقاذي والدفاعي، المسألة الثانية: في وجوب الدفاع على كل مسلم، المسألة الثالثة: في السياسة العامة للحرب، وفيما يلي المسألة الرابعة والمسألة الخامسة.

المسألة الرابعة: في وجوب بناء الدولة على أسس السلام

يجب على الدولة الإسلامية أن تبني سياستها على ما بنى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) دولته الكريمة، فيجب أن تدعو إلى السلام، وأن تجنح إليه أيضاً كلما جنحت إليه الفئة الاخرى دولة كانت أو جماعة، ففي الأول قال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}[1] وفي الثاني قال عز وجل:{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}[2] فإذا اضطرت الدولة إلى حرب خارجية أو إخماد حركة داخلية فاللازم أن تراعي منتهى النظافة والإنسانية، فإن الحرب استثناء، وهو ضرورة، فينبغي ان تقدر بقدرها.

ولا يخفى أن هناك واجباً كبيراً ملقى على عاتق الدولة الإسلامية ينبغي أن تراعيه في سياستها الدفاعية، وهو إيقاف الحروب والثورات وسباق التسلح الذي وقع فيه العالم حتى اتصلت الثورات والحروب، وتتالت الانقلابات، والتهمت الأسلحة أكبر واردات الدول، فصارت البشرية بين جحيم الفقر والجهل والحروب التي أكلت ثروات العالم، فأخذت تعاني الأمرين. قال عز وجل: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين}[3] فإيقاف الدولة الإسلامية لهذه الأمور المفجعة يعد من أحسن سبل الله عز وجل، ومن أحسن سبل إنقاذ المستضعفين.

كيف تساهم الدولة في صنع السلام؟

والجواب عن ذلك يتم من وجوه، بعضها يتعلق بالفكر والثقافة، وبعضها بالأخلاق، وبعضها بالسياسة العامة، وبعضها يتعلق بالقانون الدولي. ومن الواضح أن الثلاثة الأول بمنزلة السبب الجوهري لمعالجة الحرب في العالم، الاّ أن للعامل الدولي الأثر الكبير جدا في تحجيم الحرب والهيمنة أو صنع السلام، وحيث إن الجواب من منطلق العناصر الثلاثة الأولى طويل وقد مرت بعض الإلماعات اليه فيما تقدم من مباحث الكتاب نكتفي بالإجابة من منطلق العنصر الرابع. فنقول: يمكن للدولة أن تساهم في فرض الصلح وقيادة البشرية نحو السلام عبر تغيير المعايير والمبادئ التي يقوم عليها القانون الدولي العام، فإن المستقرىء لمبادئ هذا القانون يجد أن العديد منها تشرّع للاستغلال، وتمهّد للاستعمار والهيمنة التي هي من أهم أسباب الحرب والعنف في العالم، ويمكن أن نجمل هذه المبادئ بالبنود التالية:

1- الفصل بين السياسة الخارجية والداخلية للدول في الرقابة والتقويم، فان ذلك يساعد الدول الظالمة على تحسين صورتها الخارجية وعدم الاكتراث بالشؤون الداخلية لها، فمهد للاستبداد ومزيد التعسف.

2- منح الدول القوية قدرة التصرف بالمجتمع الدولي وفرض سياستها عليها بواسطة اعطائها حق الفيتو المعروف، وبالتالي ساعد على الاستبداد الدولي.

3- جعل المؤسسات الدولية رهينة المساعدات التي تمنحها الدول، فمكّن تلك الدول من الضغط عليها وفرض ماتريد.

4- عدم الرقابة الحقيقية العادلة على التسليح.

ومن الواضح أن هذه المبادئ وغيرها تشّرع للعنف، وتجعل من العالم مسرحا للحروب وسيادة القوة، ولايمكن التخلص من ذلك إلاّ عبر خطة واسعة يشارك فيها الجميع بالقرار والعمل.

وهنا أمور ينبغي متابعتها للحؤول دون الحرب والمساهمة في السلام:

الاول: توحيد نظرة القانون الدولي ومعاييره في تقويم السياسات بين الداخل والخارج يجعل العدل والظلم ميزان الحق والباطل والإسناد أو المواجهة؛ بداهة أن العدل والظلم لايختلفان أو يتغيران بحسب الاجتهادات والآراء، بل هما مما تتفق عليه العقول، واحكام العقلاء سواء في العقل النظري والعملي، فقبح الظلم وشناعة التعاون معه ووجوب ردعه لايختلف بين السياسة الداخلية أو الخارجية؛ إذ لافرق بين ظلم الدولة لغيرها من الدول او ظلمها لرعيتها ومواطنيها، فكما يحكم القانون الدولي بوجوب ردع العدوان الخارجي من اي دولة صدر ينبغي ان يحكم بوجوب ردع العدوان الداخلي من أي صدر، ويمكن تأسيس هيئة أو مؤسسة منصفة تمتلك حق الحكم في ذلك؛ لتمنع الدول الكبرى من التدخل الظالم في شؤون الدول الضعيفة، ولضمان حيادية المنصفين يمكن الرجوع الى العلماء والمفكرين الخبراء في ذلك، كما يمكن إرجاعها الى نظام انتخابي تقرره المنظمات الحقوقية او غير ذلك من عناصر تضمن الحق والانصاف للجميع.

وبذلك يظهر أن سكوت المنظمات الحقوقية والدول على ظلم السلطات المستبدة لرعيتها فيه نوع من المساعدة على الظلم والاستبداد، وفي الأخبار الشريفة: «العامل بالظلم والمعين عليه والراضي به شركاء ثلاثة»[4] واعتراف الدول بالحكومات السلطوية والفئوية أو الانقلابية التي تستولي على السلطة بالدبابة والمدفع هي من المساعدة على الظلم، كما ان اعتراف الامم المتحدة، وهي المنظمة الأكبر والأوسع في العالم، والتي وجدت لأجل حفظ التوازن وضمان الحقوق للجميع بمثل هذه الحكومات، بدعوى أن ظلمها واستبدادها شأن داخلي من أكبر الأخطاء، بل من أجلى صور التناقض بين المبدأ والغاية، والوسيلة والهدف، فإنك إذا سألت أي عاقل أنه إذا تنازع زوج وزوجة في دارهما وأراد الزوج قتل زوجته أيحق للجيران تركه يقتلها باعتبار انه امر داخلي لايرتبط بهم؟ أم إن الواجب عقلا ومنطقا التدخل لانقاذها؟ وإذا كان هكذا في الأمور الشخصية اذاً فلماذا يجب على الجيران التدخل لإنقاذ زوجة ولايعتبر الأمر داخليا ولايجب التدخل لانقاذ امة بحجة أنه أمر داخلي؟ وهذا ماتبنته الأمم المتحدة، فنصرت الظالم في ظلمه، وساعدت المستبد على قهر شعبه.

الثاني: إلغاء حق الفيتو الذي أملاه على الأمم المتحدة المال والسلاح، ولاشاهد من عقل أو منطق يؤيد ذلك، فبأي وجه يعطى لمثل أمريكا وروسيا حق الفيتو وابطال راي الاكثرية؟ بل هو من شواهد زيف الديمقراطية العالمية التي تؤمن بحق الأكثرية والتي تنادي بها مثل هذه الدول والمنظمات، بل هو في الحقيقة لون آخر من أحكام الغاب وتحكيم القوة على العقل والمنطق، ويصدق عليه ماقاله الشاعر:

بكوا باطلا ونضوا صارما***وقالوا صدقنا فقلنا نعم

ومن الواضح أن الإسلام لايقر ذلك، والمسلم لايقول لظلم نعم، بل يرفضه ويتصدى لردعه بحسب موازينه الشرعية.

الثالث: القضاء على أسباب الحرب وأهمها سببان:

أولها: الظلم والفساد.

وثانيها: التسليح، ويمكن ذلك بواسطة تنظيف الدولة من الاستبداد وتنزيه القضاء وتقويم احكامه ومكافحة الفقر والمرض والجهل وفق خطط مدروسة، فانها هي مبعث الثورات والحروب الداخلية والخارجية.

الرابع: الحد من صنع الأسلحة بكل صدق ومثابرة، وتحويل تجارة الأسلحة ومعاملها الى تجارة في وسائل التنمية البشرية، الى غير ذلك من الطرق الكفيلة لتعميم السلام وابعاد خطر الحرب عن العالم.

ومن الواضح أن ذلك كله ليس بمقدور دولة اسلامية واحدة في حجم عادي، الاّ أن من الصحيح أيضا أنه إذا سخرت الدولة ما أمكنها من الطاقات البشرية والمالية لأجل ذلك بالدعوة والدعاية والمنظمات والمعاهدات الدولية والعلاقات المتبادلة وغير ذلك فإنها تتمكن من الحد من ذلك، خصوصا وأنها سياسات تتوافق مع الضمير الإنساني العام، ويتضامن معها عقلاء العالم.

المسألة الخامسة: في بطلان الجندية الإجبارية

قد عرفت مما تقدم أن الجهاد واجب كفائي على كل ذكر بالغ صحيح الجسم، ولكن الانخراط الفعلي في العمل العسكري كما هو المتعارف في الجيوش والخدمة الإجبارية على ما يعبرون كان يتم حين تدعو الحاجة، أعني حين يقرر النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) القيام بحملة عسكرية، أو حين يتهدد المدينة خطر الغير؛ إذ لم يرد تشريع يستفاد منه وجوب إعداد ما يسمى الآن بالجيش المحترف أو التجنيد الإجباري، وهو تفرغ عدد من المقاتلين للعسكرية مدة من الزمان في حال السلم، ولم يؤسس في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) جيش من هذا القبيل، ولا يخفى أن هذا لا ينافي ما يبدو من بعض الروايات أن بعض المسلمين كان متفرغاً للقتال، وهم أهل الصفّة أو بعضهم، فإن هؤلاء بسبب عدم وجود مساكن وأسر لهم وعدم انخراطهم في سوق العمل والتجارة كانوا يأوون الى موضع مضلل في مسجد المدينة يسكنونه[5]، وكانوا شبه متفرغين لأمرين:

الأول: التعلم والتعليم.

الثاني: الخروج مع السرايا.

وكانوا بمنزلة القوة المهيأة دائماً لأي طارئ، ولكن لم يكونوا بعنوان جيش منظم وفيه إلزام للتجنيد، فقد ذكرت بعض التفاسير أن عددهم كان أربعمائة من المهاجرين[6] ؛ إذ حبسوا أنفسهم على الجهاد، وهو ما عبرعنه قوله سبحانه وتعالى:{للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله}[7] ولكن تفرغهم وحصرهم في سبيل الله لم يكن ناشئاً من إلزام شرعي او حكومي، وفي بعض الأخبار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا، وفي حالة إذا دهمه من عدوه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم[8]، وهكذا ورد في سيرة امير المؤمنين (عليه السلام) مع شرطة الخميس[9].

وكيف كان، فإن عدم وجود جيش محترف يحملنا على القول بأن الجيش في الإسلام لم يكن مؤسسة للدولة، وإنما كان في واقعه مؤسسة للأمة؛ لأن الجهاد موجّه إلى الأمة، والحروب التي كان يخوضها المجاهدون لم تكن حروب الدولة والدفاع عنها، بل كانت حروب الأمة والدفاع عنها، فالأمة هي المجاهدة، والدولة أداة بيد الأمة؛ ليست الدولة هدفاً بحد ذاتها حتى تقاتل الأمة لأجلها.

ولعل مما يدل على ذلك أنه لم يرد في الكتاب الكريم التعبير في الحرب والقتال بما يستفاد منه أن الدولة الإسلامية هي التي تتولى الحرب، وتحارب نيابة عن الأمة، أو أن القتال للدفاع عن الدولة، بل إن نص كل ما جاء في هذا الشأن هو أن القتال للدفاع عن المسلمين وعن الإسلام، والمسلمون هم الذين يقاتلون كما عرفته من الأدلة المتقدمة، وربما يؤيّد هذا أن الغنائم يستحقها كل من حضر المعركة حتى المولود قبل القسمة[10]، وأن خمس الغنائم ينفق على مصالح الأمة، وأن الأرض المفتوحة مباحة للأمة لكل من سبق حق استثمارها[11].

ولعل من حكمة عدم إنشاء جيش محترف في ذلك الحين هو عدم تمكين الدولة من أداة سلطوية قاهرة كالجيش تتضخم وتتسع بها سلطته القمعية على الأمة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) في نفس الوقت ترهق كاهلها بالمزيد من الدوائر والمصارف المالية، فضلاً عن حرمان الطاقات الفاعلة من الإبداع والمساهمة في التنمية والبناء، كما هو الملحوظ اليوم في الجيوش التي تؤسسها الدول، وتضرها غالباً أكثر مما تنفعها.

وعليه فإن الظاهر أن قانون الجندية الإجبارية أمر غير مشروع في الإسلام؛ لأنه إكراه وإجبار ومنافٍ لقانون السلطنة. نعم يجوز للدولة أن تجعل جيشاً اختيارياً للتطوع الاختياري إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك، ولكن ينبغي أن تكتفي فيه بمقدار الضرورة لا أكثر على حسب قانون الضرورات التي تقدر بقدرها.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

..............................................

[1] سورة البقرة: الآية 208.

[2] سورة الانفال: الآية 61.

[3] سورة النساء: الآية 75.

[4] تحف العقول: ص153.

[5] لسان العرب: ج9 ص195 صفف؛ وانظر مجمع البحرين: ج5 ص81 -82 صفف.

[6] مجمع البيان: ج2 ص387 ؛ ذيل الآية 273 من سورة البقرة.

[7] سورة البقرة: الآية 273.

[8] راجع الوسائل: ج15 ص112 ح20090 باب41 من ابواب جهاد العدو.

[9] في بعض التواريخ انهم كانوا اربعين الفا بايعوا عليا (عليه السلام) على الموت، انظر مقباس الهداية: ج6 ص156 مستدركات، وعن جماعة كانوا خمسة او ستة الاف وفي حديث الاصبغ بن نباته سئل كيف تسميتم شرطة الخميس يااصبغ؟ قال: لان ضمن له الذبح وضمن لنا الفتح. يعني اميرالمؤمنين (عليه السلام)، انظر مجمع البحرين: ج4 ص257 -258 شرط وعن الوحيد البهبهاني Q في ترجمة عبد الله بن يحيى الخضرمي وشرطة الخميس: اعيانه من الشرطة، وهو العلامة؛ لانهم لهم علامة يعرفون بها، او من الشرط وهو التهيؤ لانهم يهيؤون لدفع الخصم انظر صحيح المقال: ج1 ص196 ترجمة عبد الله بن يحيى الخضرمي.

[10] الوسائل: ج15 ص113 ح20095 وح20096 باب41 من ابواب جهاد العدو.

[11] انظر الشرائع: ج1 ص253 – 255 ؛ المختلف: ج4 ص401 -402 ؛ الدروس: ج2 ص35 ؛ الرياض: ج8 ص85 ؛ كشف الغطاء: ج4 ص410 – 412 ؛ مهذب الاحكام: ج15 ص152.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13/آذار/2014 - 10/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م