ديمقراطية بلا معارضة وسلطة يحكم فيها الجميع

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: الى أي جهة سياسية او حزب يلجأ الشعب لتقويم الأداء الحكومي عندما تكون جميع الاحزاب مشاركة في هذا الحكم؟، وهل بإمكان المشاركين في السلطة التنفيذية اكتشاف اخطائهم؟، هذا ما أجابت عليه الديمقراطيات الغربية، عندما جاءت بفكرة "المعارضة" فهنالك احزاب سياسية تتنافس فيما بينها على أصوات الناخبين، سواء في الانتخابات المحلية او البلدية، او في الانتخابات البرلمانية، ومن يحصل على اقل الاصوات يكون في صف المعارضة السياسية للحكومة التي تشكلها الاحزاب الفائزة في الانتخابات، وهذا يصدق ايضاً على الانظمة الرئاسية حيث يكون هنالك حزب معارض امام رئيس الجمهورية المنتخب مباشرة من قبل الشعب، وهذا تحديداً مصداق "المعارضة الايجابية" التي ما يزال العراق غريباً عنها رغم مرور اكثر من عقد من الزمن على خوضه التجربة الديمقراطية ضمن نظام برلماني، ما جعله يقف عاجزاً طوال السنوات الماضية عن ايجاد حل واحد لازمة سياسية او اقتصادية تشد الخناق على هذا البلد.

ففي كل الديمقراطيات بالعالم، ومع النسب المتفاوتة في التطبيق، هنالك مساحات معينة للعمل السياسي المعارض الذي يقوّم الأداء الحكومي ويؤشر على الخلل والثغرات في السلطة التنفيذية، فيكون رئيس الوزراء او رئيس الجمهورية، مسؤولاً امام نواب الأقلية المعارضة، اذا ما حصل أي خطأ او انحراف، كما تتمكن هذه الأقلية وبمعاضدة منظمات المجتمع المدني ودوائر الضغط، من نقابات واتحادات ووسائل اعلام واكاديميين واصحاب رؤوس أموال وغيرهم، من ممارسة الضغط او الاعتراض، ومن ثم التأثير على القرار الحكومي. وحتى مع عجز هذه الضغوط عن ثني الحكومة او شخص الرئيس الحاكم عن قراراته، فانها على الأقل تكون قد أدت مسؤولتيها أمام قاعدتها الجماهيرية، التي ستحفظ لها مواقفها وجهودها في الجولة القادمة من الانتخابات، وربما تكون هي صاحبة الجولة والصولة وتصل الى كرسي الحكم.

هذا النمط من الحكم هو الذي يجعل الحكومة وشخص رئيسها في حذر دائم من مغبة ارتكاب أخطاء او اتخاذ قرارات غير صائبة تثير عليه نقمة الناس، والاخطاء السياسية لن يكتشفها الناس العاديون في الانظمة الديمقراطية مهما كان مستواهم الثقافي ومتابعتهم لمسيرة عمل حكومتهم، إنما الاحزاب المعارضة ذات الامكانات الخاصة، من قبيل الآذان والعيون الصحفية النافذة كل مكان، والعلاقات الواسعة الى جانب وجودها في البرلمان واطلاعها على مسودة القرارات الصادرة من السلطة التنفيذية ومعرفتها بتفاصيل الاوضاع الاقتصادية والسياسية في البلد .

من هنا؛ لا نسمع في الديمقراطيات السائدة في العالم، دعوات ملحّة وشديدة للناس بأن يتوجهوا الى صناديق الاقتراع والمشاركة في الانتخابات، عندما يكون هنالك دور موازٍ للمعارضة السياسية المنبثقة من آرائهم، بمعنى انهم لن يكونوا وحدهم في الساحة أمام الانحرافات والاخطاء، إنما هنالك جبهة أمامية في الساحة تذود عنهم ولا تدعهم يدفعوا ثمن الاخفاقات والاختلاسات والتراجعات وغيرها بشكل يؤثر على المستوى المعيشي أو الخدمات او حتى يغير بعض العادات والسلوكيات وما تكونه المنظومة الثقافية، وهذا ما نلاحظه في الحديث الصاخب من بعض البلاد الديمقراطية عن رفع او زيادة مستوى الضرائب او الحديث عن قانون الاجهاض، او البيئة او اجراءات تمس الواقع الاجتماعي والاقتصادي.

هذه "المعارضة الايجابية" نراها ذات قواعد شعبية وجماهيرية واسعة، بخلاف "المعارضة السلبية"، او ما يطلق عليه في أدبيات المعارضة بـ "النضال السلبي"، فمن الواضح أن هكذا عمل معارض يضطر للتخفّي والسرية والعمل تحت الأرض، بسبب وجود نظام ديكتاتوري – قمعي، كما كان الحال عليه في الأنظمة الماركسية فيما كان يسمى بـ "المعسكر الشرقي"، وايضاً في بعض بلادنا التي شهدت العقود الماضية صراعاً بين جماعات معارضة وبين الانظمة الديكتاتورية.

لكن عندما تنقشع غيوم الديكتاتورية السوداء ويبزغ فجر الحرية، فمن المفترض بديهياً ان تتشكل منهجية وعقلية جديدة للعمل السياسي المعارض، لان الشعب الذي ربما يكون له سهم ودور في انتصار "المعارضة السلبية"، يرنو الى مرحلة جديدة من بناء الدولة على اساس الرؤية الايجابية البناءة وتحكيم قيم الاخلاق والعدالة والحرية، واحترام القانون ومبدأ الحقوق والواجبات. كل ذلك ممكن في ظل التجربة الديمقراطية، رغم المآخذ على بعض فقراتها وبنودها، فهي في كل الاحوال "افضل الخيارات السيئة" كما قال السياسي البريطاني المخضرم "ونستون تشرشل". بيد ان البلاد الديمقراطية تعد نفسها محمية ومصونة من الفوضى السياسية او مخاطر تدخلات العسكر، وانعدام السلم الأهلي، بفضل وجود "البرلمان" الذي يمارس صلاحياته الرقابية والتشريعية سواء كان هو الذي يشكل الحكومة بالاغلبية، كما في الأنظمة البرلمانية، او يكون تحت تأثير الحزب المعارض كما في الانظمة الرئاسية. 

وحتى لا نجانب الحقيقة، فان ابتعاد العراق عن هذا النمط من الحكم او التجربة الديمقراطية، مردّه الى الأساس الخاطئ الذي وضعه الساسة القادمون من صفوف "المعارضة السلبية" في اعقاب الاطاحة بنظام صدام على يد القوات الامريكية، وبدلاً من أن يُرسوا دعائم نظام ديمقراطي يتدرج في التطبيق حسب الظروف الاجتماعية والسياسية، فانهم لم يتوقفوا عن "نظام برلماني" في مسودة الدستور، إنما اضافوا اليه مفردات "نظام برلماني – تعددي – فيدرالي"، ومن أسوء وأخطر افرازات هذه الولادة المشوهة، ظهور المليشيات المسلحة التي تعتمدها بعض الكيانات السياسية لتكون سنداً وداعماً لها في الساحة السياسية.

لنتصور حزباً او جماعة سياسية، بدلاً من أن تتخذ من الجماهير المتشكلة من الا يدي العاملة والعقول المبدعة وكافة الشرائح، سنداً لها في عملها المعارض، تلجأ الى نهج العنف والسلاح والانزلاق في دهاليز المخابرات والتحالفات المشبوهة. وما نلاحظه اليوم من حالة تشظي وانقسام حاد وتنافس مرير على النفوذ والاموال، هو نتيجة طبيعية لتلك البداية السيئة، نعم؛ هنالك صحافة حرة، وانتخابات حرّة، ومؤسسات ثقافية تعمل واموال تبذل هنا وهناك، لكن كل ذلك لا يترك أثراً على القرار السياسي لان السلطة التنفيذية او الحكومة لا ترى امامها "معارضة ايجابية "، إنما منافسين على السلطة، وباحثين عن حصتهم من الكعكة، سواءً بالطرق الناعمة واللباقة السياسية او بالطرق العنيفة والارهابية. حتى نلاحظ رئيس الحكومة احياناً يضطر للتنازل والتفاوض في اطار المكاسب مقابل المواقف، وهذا بحد ذاته يكرس واقع المحاصصة البغيض او ما يصفه بعض الساسة بـ "المشاركة السياسية". والأخطر منه، تكريس واقع الأزمات واستمرائها.

فالعراق شهد ازمات متوالية وما يزال، يخرج من واحدة، ويدخل في اخرى. وهذا ما يجعل المراقبين يرون في المشاكل بين بغداد واقليم كردستان، أو بين الحكومة والمكون السنّي في المناطق الغربية، وغيرها من محاور الازمات، بانها لا تعدو كونها من نتاج الديمقراطية الخاصة بالعراق التي يحكم فيها الجميع، فيكون افتعال ازمة مفتاحاً لحل ازمة اخرى، ويبقى الشعب العراقي الوحيد الذي يتجرع الازمات والمشاكل ويتحمل الآثار دون ان يرى نهاية لهذا الواقع المحزن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/آذار/2014 - 8/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م