في مديح الباحثين الدهاة

داني رودريك

 

نحن نعيش في عالم معقد، لذا فإننا مضطرون إلى تبسيطه. فنحن نصنف الناس من حولنا باعتبارهم من الأصدقاء أو الأعداء، ونصنف دوافعهم بوصفها طيبة أو شريرة، وننسب الأحداث ذات الجذور المعقدة إلى أسباب واضحة. ومثل هذه الطرق المختصرة تساعدنا في الإبحار عبر تعقيدات وجودنا الاجتماعي. وهي تساعدنا في تشكل التوقعات حول العواقب المترتبة على تصرفاتنا وتصرفات الآخرين، وبالتالي تيسر عملية صنع القرار.

ولكن لأن مثل هذه "النماذج العقلية" هي في واقع الأمر تبسيطات، فإنها خاطئة بالضرورة. فهي قد تخدمنا إلى حد كبير في التعامل مع تحدياتنا اليومية، ولكنها تتجاهل العديد من التفاصيل ومن الممكن أن تأتي بنتائج عكسية عندما نجد أنفسنا في بيئة حيث تصبح تصنيفاتنا وتفسيراتنا الجاهزة أقل ملاءمة. فمصطلح "الصدمة الثقافية" يشير إلى مواقف حيث يتبين لنا أن توقعاتنا بشأن سلوك الناس خاطئة إلى الحد الذي يجعل التجربة تهزنا بشدة.

ولكن برغم ذلك فإن غياب مثل هذه الطرق المختصرة من شأنه أن يصيبنا بالارتباك أو الشلل. فنحن لا نملك القدرة العقلية ولا الفهم اللازم لفك طلاسم الشبكة الكاملة من العلاقات بين الأسباب والتأثيرات في حياتنا الاجتماعية. ومن هنا فإن سلوكياتنا وردود أفعالنا اليومية لابد أن تستند إلى نماذج ذهنية غير مكتملة ومضللة في بعض الأحيان.

ولا يختلف أفضل ما تستطيع العلوم الاجتماعية تقديمه كثيراً في واقع الأمر. فعلماء الاجتماع ــ وخبراء الاقتصاد بشكل خاص ــ يعكفون على تحليل العالم بالاستعانة بأطر مفاهيمية بسيطة يسمونها "نماذج". وتكمن قيمة مثل هذه النماذج في إسهامها في توضيح سلسلة الأسباب والتأثيرات، وبالتالي تجعل الافتراضات المحددة التي تستند إليها التنبؤات شفافة.

إن علم الاجتماع الجيد يعمل على تحويل حدسنا غير المجرب إلى خريطة من الأسهم السببية. وفي بعض الأحيان يبين لنا كيف يؤدي هذا الحدس إلى نتائج مثيرة للدهشة وغير متوقعة عندما يتم تمديدها إلى نتائجها المنطقية.

والواقع أن الأطر التامة العمومية، مثل نموذج آرو-ديبرو للتوازن العام والذي يعشقه أهل الاقتصاد، عريضة وشاملة إلى الحد الذي يجعلها غير مفيدة على الإطلاق في تفسير العالم الحقيقي أو التنبؤ به. والواقع أن نماذج علوم الاجتماع المفيدة تقوم على تبسيطات في كل الأحوال. وهي تتجاهل العديد من التفاصيل بالتركيز على الجانب الأكثر أهمية من سياق بعينه. وتُعَد النماذج الحسابية لخبراء الاقتصاد التطبيقيين المثال الأكثر وضوحاً لهذا. ولكن سواء كانت رسمية أو لم تكن فإن الروايات المبسطة هي المعين الذي يستند إليه العلماء الاجتماعيون.

وكثيراً ما تلعب المقارنات التاريخية المطبقة على أسلوب بعينه دوراً مشابها. على سبيل المثال، يستخدم الباحثون في مجال العلاقات الدولية اللقاء الشهير بين نيفيل تشامبرلين وأدولف هتلر في ميونيخ عام 1938 باعتبارها نموذجاً للكيفية التي قد تتحول بها محاولات استرضاء قوة عازمة على التوسع إلى جهد عقيم (أو خطير).

ولكن بقدر ما يشكل التبسيط حتمية للتفسير، فإنه أيضاً قد يكون فخا. فمن السهل أن نرتبط بنماذج بعينها ونفشل في إدراك حقيقة مفادها أن الظروف المتغيرة تتطلب نموذجاً مختلفا.

ومثلهم كمثل غيرهم من البشر، يميل الباحثون في مجال العلوم الاجتماعية إلى الثقة المفرطة في النموذج المفضل لديهم اليوم. كما يميلون إلى المبالغة في دعم النموذج والاستخفاف بالأدلة الجديدة التي تتعارض معه ــ وهي الظاهرة ا لمعروفة باسم "انحراف البرهان".

في عالم من الظروف المتنوعة والمتغيرة، يصبح من الممكن أن يتسبب علماء الاجتماع في إحداث أضرار حقيقية بتطبيقهم لنموذج خاطئ. فقد أدت السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة المبنية على أسواق جيدة الأداء إلى نتائج عكسية في البلدان النامية ــ تماماً كما فشلت في عصر سابق نماذج التخطيط التي افترضت وجود مسؤولين بيروقراطيين يتسمون بالكفاءة والاقتدار. كما دفعت نظرية الأسواق الفعّالة صناع السياسات إلى سلوك الطريق غير الصحيح من خلال تشجيعهم على الإفراط في إلغاء التنظيمات المالية. والواقع أنها لممارسة باهظة التكلفة أن نطبق قياس ميونيخ في عام 1938 على صراع دولي بعينه عندما يكون الموقف الأساسي أكثر تذكيراً بسراييفو في عام 1914.

كيف ينبغي لنا إذن أن نختار من بين التبسيطات البديلة للواقع؟ إن الاختبارات التجريبية الصارمة قد تقود في نهاية المطاف إلى تسوية تساؤلات كتلك التي تدور حول ما إذا كان اقتصاد الولايات المتحدة اليوم يعاني من الافتقار إلى الطلب الكينزي (الذي يتفق مع نظريات جون ماينارد كينز) أو من عدم اليقين السياسي. ورغم هذا فإننا نحتاج غالباً إلى اتخاذ قرارات لحظية، من دون الاستفادة من الأدلة التجريبية القاطعة. ويشكل بحثي في مجال تشخيص النمو (مع ريكاردو هوسمان وأندريس فيلاسكو وغيرهم) مثالاً لهذا النمط من العمل، والذي يبين كيف يمكن للمرء أن يحدد في سياق بعينه القيود الأكثر إلزاماً بين مجموعة متعددة من القيود المفروضة على النمو.

ومن المؤسف أن خبراء الاقتصاد وغيرهم من علماء الاجتماع لا يحصلون فعلياً على أي تدريب على كيفية الاختيار بين نماذج بديلة. ولا ينال مثل هذا الاستعداد المكافأة مهنيا. ويُنظَر إلى النظريات والاختبارات التجريبية النامية الجديدة باعتبارها علما، في حين تشكل ممارسة الحكم السليم حرفة.

وقد اشتهر الفيلسوف أشعيا برلين بالتمييز بين اثنين من أنماط التفكير رمز إليهما بالقنفذ والثعلب. فالقنفذ يعيش أسيراً لفكرة كبيرة منفردة يطبقها من دون كلل. أما الثعلب فهو على النقيض من ذلك يفتقر إلى رؤية كبرى ويتبنى العديد من وجهات النظر المختلفة حول العالم ــ والتي قد يكو بعضها حتى متناقضا.

ونحن نستطيع دوماً أن نتوقع تناول القنفذ لأي مشكلة ــ تماماً كما نستطيع أن نتكهن بأن الأصوليين في السوق سوف ينصحون دوماً بأسواق أكثر تحررا، بصرف النظر عن طبيعة المشكلة الاقتصادية. ويحمل الثعالب نظريات متنافسة، بل وربما متعارضة، في رؤوسهم. فهم لا يرتبطون بإيديولوجية معينة ويرون أنه من الأسهل أن يكون تفكيرهم مرتبطاً بالسياق.

إن الباحثين القادرين على الإبحار من إطار تفسيري بعينه إلى آخر وفقاً لما تفرضه الظروف أكثر قدرة على توجيهنا في الاتجاه الصحيح. والعالم الآن بحاجة إلى القليل من القنافذ والمزيد من الثعالب.

* أستاذ في العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برينستون نيوجيرسي، ومؤلف كتاب مفارقة العولمة: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي

http://www.project-syndicate.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/آذار/2014 - 8/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م