تقدم "داعش" نموذجها الخاص لمعالجة قضية "الأقليات غير المسلمة في
المجتمعات المسلمة... ففي "إمارة الرقة"، نواة الخلافة التي تعد بها
"الدولة"، جرى فرض الجزية على مسيحيي البلاد وسكانها الأصليين، مُنع
عليهم ترميم أو إعمار كنائسهم المهدمة، دع عنك بناء بيوت جديدة
للعبادة، طُلب إليهم عدم الجهر بصلواتهم والاكتفاء بأداء شعائرهم بصمت
داخل الكنيسة... فُرض عليهم التقيد بالزي "الداعشي" وعدم ارتداء أو
إظهار ما يشير إلى مسيحييتهم... طُلب إليهم عدم اقتناء السلاح حتى
للدفاع عن النفس، فقد منحتهم "الدولة" الأمن والأمان.
أما عن الجزية، فهي تبدأ بسبعة عشر غراماً من الذهب لأغنيائهم، ونصف
المبلغ للطبقة الوسطى، وربعها للفقراء والمعدمين من مسيحيي المنطقة...
هذا هو "الحل الإسلامي" لقضية المسيحيين، من منظور "داعش" ومن ينتمي
إلى مدرستها في الفكر والثقافة والإيديولوجيا والتفكير... وهو حل محرج
لكل الحركات الإسلامية، بل وكان محرجاً لرجل مثل أبو قتادة، المعروف
برعايته الروحية والفكرية لتيار السلفية الجهادية.
نعلم أن كثيرين لا يوافقون "داعش" على ما تقول وتفعل... نعرف أن
البعض تبرأ من سلوكياتها وغلوها وتشددها... ولكننا نعلم أيضاً، أن
كتّاباً وسياسيين محسوبين على حركات إسلامية عديدة، من بينها الإخوان
المسلمين، ما زالوا حتى اليوم، ينظرون لـ "داعش" بوصفها "انزلاقاً
طارئاً" عن الطريق القويم، يمكن تصحيحه بالكلمة والموعظة الحسنة، لا بل
أن بعضهم ما انفك يوجه النداء تلو النداء، لنبذ الشقاق والخلاف، وجمع
الكلمة والشمل، للتفرغ لمنازلة "المجرم الأكبر" بشار الأسد... رأينا
عبرات وحسرات يذرفها كتاب، منهم "إخوانيين" على الدم المراق في الصراع
بين "داعش" و"النصرة"، باعتباره اقتتالاً داخل البيت الواحد، وجرحاً
نازفاً من الجسد الواحد.
ليس أبو قتادة وحده، من ناشد الأفرقاء تجنب الفرقة والفتنة بين
"الجهاديين" من نصرة و"دولة"، هناك قوى تدّعي احتسابها على خط الإسلام
"المعتدل" من انضم إلى ركب السجين الأردني الأشهر، بدل التصدي لهذه
الأفكار المنحرفة والمفرطة في غلوها وتطرفها.
لم ينبر أي من هؤلاء ليقول لنا ما قوله في موضوع الجزية، هل المشكلة
في اختيار التوقيت الخطأ والمكان غير المناسب... هل السبب في رفض بعض
أفكار "داعش" وسلوكياتها، أنها تأتي قبل أوانها.... هل الخشية من
انتصار النظام وقواته هي دافع هؤلاء لإجازة التعاون مع "الكفار"
"والمرتدين"... هل هناك توقيت مناسب لفعل ما تفعله "داعش" اليوم، ماذا
إذا سقط النظام، هل نُعمِل "حدّ الردّة" بالائتلاف والمعارضة العلمانية
وغير "السلفيين"؟... هل نفرض الجزية على أهل الكتاب والذمة؟... وماذا
عن الذين لا كتاب لهم، وهم في عرف "داعش" وأخواتها، مشركين وكفار
ومرتدين، من "نصيريين" و"دروز" و"روافض"، ماذا نفعل بكل هؤلاء، ومتى؟
أبو محمد الجولاني، الرجل الذي يجري تقديمه وتنظيم "النصرة" الذي
يقف على رأسه، بوصفه جزءاً من معسكر المعارضة المعتدلة، كفّر
"الائتلاف" و"المجلس العسكري"، وهو في هذا لم يفترق عن أبي بكر
البغدادي ولا "داعش"، لم نسمع لأحدٍ من هؤلاء الذي يأخذون على البغدادي
غلوه وتطرفه، كلمة واحدة تنتقد تصريحات الجولاني، أو على الأقل، يبادله
النصيحة والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة.
خلاصة القول، أن التجربة السورية تقدم نموذجاً إضافياً لحالة انعدام
الفواصل والتخوم بين خطاب العديد من الحركات الإسلامية، ففي مصر مثلاُ،
نسمع خطاباً تبريرياً للعنف والإرهاب بدعوى الانقلاب، وبعضهم قال إن
العودة عن الانقلاب قمين بإنهاء الإرهاب في ظرف 24 ساعة، وفي سوريا،
بحجة "التوحد في مواجهة الأسد" يجري الصمت والتواطؤ، بل والتعاون
والتنسيق مع حركات تحمل لمستقبل سوريا من الأخطار والتهديدات، ما لم
يأت بمثلها، نظام الأسد الأب والابن... وفي العراق، يجري تعويم خطاب
"داعش" وسلوكها على سطح المطالب المشروعة لأبناء الأنبار والمحافظات
الغربية، ومن دون محاولة لتحديد الفواصل والتخوم، ما ينعكس وبالاً على
مصالح البلاد والعباد، ويعزز الانطباع بأن المسافات بين مختلف مدارس
الإسلام السياسي، ما زالت هلامية ومتداخلة، وقابله دوماً لإعادة
الترسيم والتحديد.
* مركز القدس للدراسات السياسية |