منطقة التجارة الحرة الأورو-أمريكية

د. عدنان عباس علي

 

على هامش قمة الدول الصناعية الثمانية في منتجع "أيسكيلين" بمقاطعة "فيرمنا" في ايرلندا الشمالية، التقى زعماء الاتحاد الأوربي، في حزيران/يونيو 2013، الرئيس الأمريكي أوباما، وذلك للمصادقة على انطلاقة المفاوضات الخاصة باستحداث منطقة التجارة الحرة بين دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية. وضم الوفد الأوربي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ورئيس الوزراء البريطاني كاميرون ورئيس وزراء إيطاليا (السابق) إينريكو ليتا. وكما هو شائع، فإن منطقة التجارة الحرة هي نوع من تكتل تجاري بين دولتين أو أكثر وافقت على إلغاء التعريفات الجمركية والحصص والتفضيلات على السلع والخدمات المتداولة بينها.

ويتطلع الطرفان إلى أن يؤدي إلغاء الحواجز الجمركية بين جانبي المحيط الأطلسي إلى تعزيز التبادل التجاري وتنشيط أسواق العمل وزيادة معدلات النمو الاقتصادي. وكان الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد دعا لعقد اتفاقية تجارة حرة شاملة مع الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوربي مؤكداً على أهمية هذه الاتفاقية التي ستسري على منطقة تساهم بنصف الإنتاج الاقتصادي العالمي.

وتأسيساً على دراسة أمريكية-أوربية مشتركة، كانت قد أوصت بضرورة بدء المفاوضات في أسرع وقتت ممكن، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيس المفوضية الأوربية خوسيه مانويل باروسو أن تحرير التجارة البينية سيدعم ملايين الوظائف على جانبي الأطلسي، وسيعزز العلاقات الاقتصادية بين الجانبين ويزيد الازدهار الاقتصادي ورفاهية المواطنين في الكتلتين الاقتصاديتين العملاقتين. وفي حين تساهم الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوربي بحوالي 30 تريليون دولار من الإنتاج العالمي السنوي، أي بحوالي نصف إجمالي الإنتاج العالمي، تشير تقديرات الخبراء الاقتصاديين إلى أن الاتفاقية التجارية المنشودة يمكن أن تضيف، سنوياً، 119 مليار يورو (160 مليار دولار) إلى اقتصاد الاتحاد الأوربي وحوالي 95 مليار يورو لاقتصاد الولايات المتحدة.

إلا أن هذه النواحي الإيجابية لم تحفز فرنسا على تأييد هذا المشروع في بادئ الأمر. ففرنسا هددت بالحيلولة دون بدء محادثات التجارة الحرة بين الطرفين وراحت تؤكد على أنها ستستخدم حق النقض (الفيتو) لعرقلة المفاوضات فيما لو شملت الاتفاقية قطاع الإنتاج السينمائي والمرئي والمسموع، ووسائل الإعلام الرقمية من الاتفاقية، وذلك لأنها تعتبر هذا القطاع عاملاً مهماً لهويتها الثقافية وصناعة وطنية تواجه التهديدات العظيمة الناجمة عن القطاع السينمائي في هوليود الأمريكية.

وقد اتفق وزراء دول الاتحاد الأوربي على الاستجابة للمخاوف الفرنسية وإصرارها على ضرورة استثناء قطاع الثقافة من اتفاقية التجارة الحرة، وذلك رغبة منهم في إعطاء الضوء الأخضر لبدء المفاوضات المرتقبة بأسرع وقت ممكن، وعلى أمل أن تتحقق الفرصة المواتية لضم هذا القطاع إلى الاتفاقية مستقبلاً. وبناءً على هذا المواقف المتفهم للتطلعات الفرنسية، وافقت فرنسا، من جانبها، على دعم الاتحاد الأوربي في مفاوضاته مع الجانب الأمريكي ومساندة الجانبين في مساعيهما لتوقيع اتفاقية تجارية تاريخية قد تفضي إلى أكبر منطقة تجارية في العالم قاطبة.

وعلى الصعيد نفسه، أكدت بريطانيا أن الاتفاق على هذه المنطقة التجارية فرصة تاريخية لن تتكرر خلال جيل واحد أبداً، وبالتالي، فلا بد من اقتناصها وتذليل كافة المعوقات المعرقلة لتحقيقها. وفي السياق نفسه، أعلنت بريطانيا أن الاتفاقية المنشودة ستحقق مكاسب تعود بالخير الوفير والازدهار الاقتصادي المنشود على اقتصادها الوطني وعلى الاقتصاد العالمي وستزيد من نشاط أسواق العمل على جانبي المحيط الأطلسي، وستساعد على تلافي الخسائر الفادحة التي خلفتها الأزمة المالية العالمية والمشاكل المالية والاقتصادية التي تمر بها بعض دول اليورو، لاسيما أن هذه الأزمات كانت قد دفعت الدول إلى تنفيذ العديد من الإجراءات الحمائية الضرورية لحامية الاقتصاديات الوطنية من مغبة المنافسة الأجنبية. على صعيد آخر، تكتسب هذه المفاوضات الثنائية أهمية كبيرة بعد أن توقفت المفاوضات التجارية المتعددة الأطراف إثر انهيار جولة الدوحة في عام 2005، وفشل منظمة التجارة العالمية في دفع الدول إلى التوصل إلى حل وسط يلبي مصلحة الجميع.

وتحدث الرئيس أوباما عن "الشراكة الرائدة ذات القدرات الهائلة" وحث الجميع على اغتنام هذه الفرصة الثمينة وضرورة مقاومة إغراء تخفيض سقف الطموحات أو تفادي الموضوعات الشائكة لا لشيء إلا من أجل التوصل إلى اتفاق سريع.

وتم الاتفاق على أن تجري المحادثات بين الطرفين في واشنطن، وعلى أن تمثل المفوضية الأوربية دول الاتحاد الأوربي في هذه المفاوضات وذلك باعتبارها السلطة التنفيذية للاتحاد الأوربي.

وكما كان قادة دول الاتحاد الأوربي مصرين على بذل كل ما في وسعهم من أجل تتويج المفاوضات بالنجاح، كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أيضاً، قد أشار في العديد من المرات إلى أنه يعقد آمالاً كبيرة على الاتفاقية - التي هي واحدة من أكبر الاتفاقيات التجارية في التاريخ - وأنه سيبذل قصارى جهده من أجل تحقيق منطقة تجارية حرة تراعي مصالح الطرفين.

وكانت الجولة الأولى من المفاوضات قد انطلقت في واشنطن في السادس عشر من ديسمبر واستغرقت أسبوعاً واحداً. ويأمل الجانبان أن تنتهي المفاوضات خلال فترة تتراوح بين 18 إلى 24 شهراً، أي أن يتوصل المرء إلى اتفاق تاريخي، نهائي، بشأن خلق أكبر منطقة تجارية في العالم، في نهاية العام الحالي، عام 2014. وغني عن البيان أننا هاهنا إزاء مهلة قصيرة جداً بالنسبة لمحادثات تجارية دولية تستغرق عادة سنوات عديدة.

وكان المفاوض التجاري الأمريكي قد أشار إلى أن المفاوضات ستناقش 24 موضوعاً، وأن هذه الموضوعات ستمتد من القطاع الزراعي وحتى الخدمات المالية والمنسوجات. ويذكر الطرفان أنه بدون تقديم تنازلات بشأن المعايير والقواعد المنظمة، فمن غير المتوقع تحقيق الانتعاش الاقتصادي المأمول. ولا يتعلق الأمر هاهنا بتغيير الرؤية التنظيمية للاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية، إنما في إلغاء العوائق التجارية بين أوربا والولايات المتحدة باعتبار أن تحرير الأسواق والتجارة الخارجية خطوة أساسية لتعزيز الرخاء واستحداث مئات الآلاف من فرص العمل في الاقتصاديات المعنية بالأمر. وبحسب ما أعلنته المفوضية الأوربية، فإن اتفاقية تحرير التجارة البينية ستحقق زيادة في دخل الأسرة الأوربية تبلغ في المتوسط حوالي 545 يورو سنوياً. من ناحية أخرى يأمل الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن تتسبب منطقة التجارة الحرة في رفع الحد الأدنى لأجر الساعة الواحدة من العمل إلى 9 دولارات.

إلا أن واقع الحال يشهد أيضاً على أن الولايات المتحدة وأوربا كانتا قد اتخذتا في الزمن السابق على الشروع بهذه المفاوضات الكثير من الخطوات الضرورية لانتقال البضائع عبر الحدود الخارجية بلا قيود ذات بال، وعلى أن عملية التحرير هذه كانت قد حققت نفعاً لكلا الطرفين فعلاً. ولكن، وإذا كان خفض بضعة ضرائب جمركية أسلوباً ناجعاً لإنعاش الصادرات في سابق الزمن، فإن ازدهار التجارية الخارجية ما عاد يتوقف على خفض هذه الضرائب في اليوم الراهن. فمتوسط المعدلات الجمركية السائدة بين الولايات المتحدة وأوربا لا يزيد، أصلاً، على 4 بالمائة حالياً.

من هنا، ولكي تستطيع الشركات الأمريكية والأوربية مستقبلاً تصدير منتجاتها إلى الأسواق الأوربية والأمريكية بأكبر قدر من السلاسة واليسر والحرية، لا مندوحة من أن تتخذ الحكومات الآن الخطوات الضرورية لإلغاء العوائق الفنية، العوائق غير الناجمة عن الضرائب الجمركية: أعني، على سبيل المثال وليس الحصر، اللوائح الإدارية الخاصة بسلامة المواد الغذائية وما سوى ذلك من معايير ذات صلة بالجودة النوعية للسلع.

على صعيد آخر، ولكي تتحقق تسهيلات ذات شأن بالنسبة للنشاطات الاستثمارية، تبذل المفوضية الأوربية قصارى جهدها للوصول إلى "اتفاقية حماية الاستثمار". وغني عن البيان أن المشكلات تكمن في هذه الاتفاقية حقاً وحقيقة. فدول الاتحاد الأوربي تخشى أن تفتح اتفاقية التجارة الحرة الأبواب على مصراعيها أمام الشركات الأمريكية العملاقة لأن تقيم الدعاوي على الحكومة الألمانية مثلاً أو على الاتحاد الأوربي برمته إذا ما أقدم أحد هذه الأطراف على سن تشريعات تضر بمصالح هذه الشركات وتتسبب في تخفيض أرباحها، أعني أن الحكومة الأمريكية تسعى لضمان حق الشركات الأمريكية بإقامة الدعوى ضد المفوضية الأوربية، على سبيل المثال، في حالة اعتقادها أن القوانين التي سنتها هذه المفوضية قد ألحقت الضرر بها.

ويعقد كبير المفاوضين الأمريكيين دان مولاني أمله على إلغاء القيود غير الضرورية السائدة في التجارة بين الكتلتين الاقتصاديتين. وبحسب تصورات المفاوض الأمريكي مولاني والمفاوض الأوربي إجناسيو جارسيا بيرسيرو لا تدور المفاوضات حول خلق تناسق بين القيود وخفض أو زيادة المعايير السائدة في التجارة البينية. فبحسب ما أعلنه الطرفان شملت الجولة الأولى من المفاوضات مسائل من قبيل تحرير أسواق السلع الزراعية وأسواق الطاقة والمناقصات الحكومية. كما جرى بحث المسائل المتعلقة باللوائح القانونية الخاصة بمواد مكافحة الآفات الزراعية والشروط الخاصة بالاستثمارات، وعلى وجه الخصوص الشروط - المثيرة للجدل - الخاصة بحل النزاعات الدارجة في النشاط الاستثماري الخاص. وكان الطرفان قد شكلا لجان عمل مختلفة يبلغ عددها حوالي عشرين لجنة لتقديم الحلول المناسبة للمسائل المتعلقة بالقطاعات الاقتصادية المختلفة (الإنتاج الزراعي وإنتاج السيارات والمواد الكيميائية) وحرية تنقل المعلومات وحماية حقوق الملكية الفكرية، وذلك خلال مهلة أمدها 24 شهراً.

وتلبية للدعوة التي وجهها الطرفان الأمريكي والأوربي، جاء إلى واشنطن 350 شخصاً جميعهم إما من ممثلي الاتحادات المهنية والمنظمات غير الحكومية أو خبراء متخصصين في المسائل الاقتصادية عامة والتجارة الخارجية بنحو مخصوص، وذلك لمراقبة المفاوضات وتقديم المشورة للمتفاوضين. وغني عن البيان أن الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة إنما أرادوا من حضور هذه الأطراف التأكيد على أن المفاوضات تجري في أجواء تسودها الشفافية، اعتقاداً منهما أن حضور هؤلاء المراقبين سيحول دون اندلاع موجة احتجاجات شبيهة بموجة الاحتجاجات العارمة التي اندلعت في نهاية حزيران/يونيو من عام 2010 إثر الإعلان عن تفاصيل اتفاقية مكافحة التزييف التجارية (Anti-Counterfeiting Trade Agreement, ACTA). بيد أن الأمر يختلف هنا بعض الشيء، فما خلا تسريب بعض المعلومات غير الرسمية، لا تزال النوايا المتحكمة في جدول الأعمال سراً من أسرار الدولة.

ومهما كانت الحال، فلو تم الاتفاق على إنشاء منطقة التجارة الحرة الأورو-أمريكية بالشمولية المراد تحقيقها فعلاً، فإن الاتفاقية لن تترك بصماتها على معايير العمل فحسب، بل وعلى الكثير من المعايير الاجتماعية أيضاً، أي وبتعبير آخر، أن الاتفاقية ستؤدى إلى تغييرات جذرية في هذه المجالات وفي مجال العمل النقابي وستحتم تنفيذ تغييرات ملموسة في النظم الضريبية، أي ستنعكس بكل تأكيد على الميزانيات الحكومية الخاصة بالدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي، وعلى ما سوى ذلك من مجالات ذات أهمية كبيرة بالنسبة للمستهلك العادي.

والأمر المثير للاستغراب هو أن الحكومات الغربية، التي لا تكل ولا تمل من لوم دول العالم الثالث على عدم إفساحها المجال للمجتمع المدني في المشاركة في صياغة القرارات السياسية، لم تجد حرجاً أبداً، حين وجهت الدعوة لثلاثمائة وخمسين فرداً من جماعات الضغط (Lobby) للمشاركة بصفة خبراء في مفاوضات التجارة الحرة، لكنها لم تفكر، أبداً، في إشراك هيئات المجتمع المدني في صياغة القرارات المتخذة. أضف إلى هذا أن الجمعيات المدافعة عن حقوق المستهلكين، تخشى أن تتجاهل الاتفاقية المرتقبة رغبات المستهلكين الأوربيين وتجيز إنتاج السلع الزراعية المعدلة جينياً والأعلاف الحاوية على الهرمونات. كما تخشى هذه الجمعيات من التغيرات التي قد تطرأ على اللوائح المتحكمة في إجازة العقاقير الطبية وفي المعايير الصناعية الخاصة، على سبيل المثال، بنوعية الجهد الكهربائي الدارج في دول الاتحاد الأوربي من ناحية وفي الولايات المتحدة من ناحية أخرى. إلا أن الكثير من الخبراء يعتقدون أن دول الاتحاد الأوربي لن تستسلم بيسر للضغوط الأمريكية، وبالتي فإنهم يتوقعون بروز خلافات لا يستهان بها حول الزراعة وخصوصاً المنتجات الزراعية المعدلة جينياً والتي تُزرع على نطاق واسع في الولايات المتحدة لكنها لا تلق قبولاً عاماً في دول الاتحاد الأوربي وتخضع لضوابط صارمة في غالبية الدول الأوربية، وفي ألمانيا على وجه الخصوص.

ومن المتوقع أن يبذل الأمريكان قصارى جهدهم للدفاع عن قطاعاتهم الاقتصادية المتمتعة بالحماية التجارية، أعني تلك التشريعات على وجه الخصوص، التي تمنح الشركات الصغيرة والمتوسطة ميزة عند مشاركتها بالمناقصات الحكومية وتحول دون مشاركة الشركات الأجنبية في هذه المجالات.

وكانت قضية التجسس الأمريكية على الحلفاء الأوربيون، قد أثارت قلق ومخاوف الأوربيين، ودفعت البرلمان الأوربي لأن يناشد الحكومات الأوربية بضرورة التريث في إجراء المفاوضات الرامية إلى إنشاء منطقة تجارية حرة.

ومن أجل تهدئة الجانب الأوربي والحد من شدة المخاوف الأوربية من عمليات التجسس الأمريكية، ولكي لا تتأثر سلباً المفاوضات الثنائية، اتفق الجانبان على ضرورة عقد محادثات ثنائية مخصصة لتبادل وجهات النظر بشأن عمليات التجسس الأمريكية التي أماط اللثام عنها مواطن أمريكي كان قد عمل – قبل أن يطلب اللجوء في روسيا – موظفاً في جهاز المخابرات الأمريكية.

وربما سأل البعض عن الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة على وجه الخصوص للتحرك بهذه القوة لتعزيز الشراكة التجارية مع الاتحاد الأوربي. وعلى ما نرى، يكمن السبب الرئيسي لهذا التحرك في أن الصين كانت، في عام 2012، قد تفوقت، لأول مرة في التاريخ، على الولايات المتحدة من حيث حجم تجارتها الخارجية، وأمست قوة اقتصادية تتحدى هيمنة الولايات المتحدة على التجارة العالمية وتسعى للتحول إلى إمبراطورية عالمية تحل محل الإمبراطورية الأمريكية. ففي حين بلغ إجمالي حجم الصادرات والواردات الأمريكية حوالي 3,82 تريليونات دولار، بلغ إجمالي حجم التجارة الخارجية الصينية 3,87 تريليونات دولا في العام المذكور. ولسنا بحاجة للتأكيد على أن الهيمنة الأمريكية على التجارة العالمية، تشكل- إلى جانب الدولار الأمريكي والسيطرة على صندوق النقد الدولي والبنك العالمي - أحد أهم عوامل ارتقاء الولايات المتحدة الأمريكية إلى إمبراطورية عالمية الأبعاد.

وعلى صعيد آخر، وتأسيساً على هذا التطور السريع في مجال التجارة الخارجية، أضحت الصين أهم شريك تجاري بالنسبة لدول الاتحاد الأوربي عامة، وبالنسبة لألمانيا بنحو مخصوص، الدولة التي تتطلع، من ناحيتها، لأن تتمكن من مضاعفة صادراتها إلى الصين بنهاية العقد الحالي. وغني عن البيان أن فرنسا تراودها ذات النوايا، فهي أيضاً تأمل في أن يحالفها الحظ وتنجح في زيادة صادراتها إلى الصين. ولا غرو في أن الولايات المتحدة يساورها قلق شديد من اتجاه دول الاتحاد الأوربي صوب الصين وتسريع نمو التجارة البينية.

ولا يفوتنا هاهنا أن نشير إلى أن الولايات المتحدة حققت فائضاَ في ميزان الخدمات بلغت قيمته حوالي 195 مليار دولار في عام 2012، وعجزاً في الميزان التجاري زاد على 700 مليار دولار، بينما حققت الصين في العام نفسه، عام 2012، فائضاً في الميزان التجاري بلغت قيمته أكثر من 231 مليار دولار، علماً أن حجم الاقتصاد الأمريكي يبلغ ضعف حجم الاقتصاد الصيني، بحسب البيانات المعلنة من قبل البنك الدولي. فبحسب هذه البيانات، زاد إجمالي الناتج المحلي الأمريكي على 15 تريليون دولار، في حين بلغ إجمالي الناتج المحلي الصيني 7,3 تريليونات دولار فقط.

ولعل من نافلة القول الإشارة هاهنا إلى أن العجز في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة والصين، وهو عجز كان قد بلغ الذروة عام 2012، سيظل يشكل - جنباً إلى جنب مع تطلعات الصين للتحول إلى إمبراطورية عالمية – أساساً لتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. وهكذا، لا غرو أن تحث الولايات المتحدة الخطى صوب إنشاء منطقة للتجارة الحرة مع دول الاتحاد الأوربي، وذلك لأن تحرير التجارة البينية مع هذه الكتلة الاقتصادية يساهم في الحد من تفوق الصين على الولايات المتحدة تجارياً ويؤدي إلى زيادة معدلات النمو الاقتصادي وإلى خلق المزيد من فرص العمل في الولايات المتحدة الأمريكية.

إن هذه الآمال الأساسية تأتي في مقدمة العوامل التي تدفع أوباما لأن يرعى بنحو شخصي الاتفاقية المرتقبة، والتي ستخلق، إن تم إبرامها بنحو نهائي، تكتلاً اقتصادياً ينتج نصف الإنتاج العالمي، وقادر أيضاً على إقصاء الصين من محيط الدول الواقعة على جانبي الأطلسي، وعلى تعزيز التجارة بين الطرفين، على أمل أن يستغني الطرفان عن الواردات الصينية ويتخذون الإجراءات المناسبة لاستبدال هذه الواردات بالواردات الأورو-أمريكية، وينفذون الخطوات الضرورية لتقليص أهمية الصين التجارية في المنطقة.

* أستاذ جامعي من العراق

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 5/آذار/2014 - 2/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م