تنويعات على الخوف المخيف

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: أكثر الكلمات التي تتردد على لسان الكاتب قيس حسن في كتابه تحت سماء الشيطان هي كلمة الخوف بتنويعاتها المتعددة في الصفحة الواحدة (خوف – أخاف - نخاف – خائفون – مخيف – تخويف). كانه في كتابه الذي غطى أربعة عقود من تاريخ العراق، وكان معاصرا لها، هو تسجيل دقيق لخوف مجتمعي من كل شيء، ابتدأ بالخوف من السلطة، ولم يتوقف عند خوف الخائف من نفسه.

لا أتحدث في هذه السطور عن مشاعر الخوف الطبيعية لدى الانسان، الخوف من الموت، المرض، الوحدة، وغيرها من مخاوف تبقى ضمن الحدود الطبيعية لمشاعر الانسان وعواطفه.

أتحدث عن شكل اخر من الخوف، غير طبيعي، مرضي، مدمر، مكبل، معوّق، الى اخر ما في قاموس اللغة من معاني ودلالات، تحول الحياة والانسان الى جحيم يحترق فيه، ولامناص من الخلاص منه.

انه خوف لا يرتبط بنقيضه (الشجاعة) ولا علاقة له به من قريب أو بعيد، فالقيم والممارسات التي يستدرجها (الخوف) ويعمل على ترسيخها، ليست لها علاقة بقيم أو سلوكيات الشجاعة التي درج الناس على تمثلها والتطابق معها، انه خوف لا يكون من نقيض له وامامه الا المزيد من الخوف نفسه.

خوف كل ما فيه هو حاجب للعقل، يقود الى حدة المشاعر، والتي يبرزها السلوك اليومي للإنسان الخائف داخل محيطه، وهو ما أشار اليه مستشار الأمن القومي السابق زبغنيو بريجينسكي، بعد ظهور شعار (الحرب على الإرهاب) بقوله (أن استخدام تعبير الحرب على الإرهاب كان بهدف خلق ثقافة الخوف عن عمد لأنها تحجب العقل، وتزيد من حدة المشاعر، وتجعل من الأسهل على السياسيين الغوغائيين تعبئة الجمهور بالسياسات التي يرغبون في تمريرها).

في مجتمع مثل المجتمع الأمريكي، يكون مثل هذا الخوف عارضا، يمكن له ان ينتهي بانتهاء الأسباب المولدة له، لكنه في مجتمع مثل المجتمع العراقي، هو خوف مقيم سرمدي، لا يرتحل الا صوب المزيد من خوف يجدد نفسه بنفسه.

ما الذي انتجه الخوف في العراق، والذي تحول الى ثقافة مجتمعية راسخة؟

ربما تكون كلمة (الإعاقة) هي الأكثر دلالة عما انتجه الخوف في عقول ونفوس العراقيين، والذين عاصروا سياسات التخويف التي مارستها السلطة البعثية منذ العام 1963 وحتى لحظة سقوط صدام حسين وسلطته، الا ان تاريخ سقوط صدام لايؤرخ بالضرورة لسقوط ثقافة الخوف، فالمجتمع العراقي لازال معوقا في تفكيره وسلوكه، وهو ينتج وقادر على ذلك باستمرار، لكل ما من شانه تطمين سلوك الخائف من خلال حدة مشاعره التي تتوجه ضد الاخر.

ماموجود حاليا هو رجع صدى، يكتسب كل يوم قوة الصوت الذي يتمدد الى المستقبل، عبر الكثير من سلوكيات العراقيين.

في بحث يحمل عنوان (العنف وقد أصبح مؤسسة لدى السلطة الاستبدادية) يقول إدمون بلان إنّ (أكثر الحكّام استبدادا عندما يدفعهم الخوف أو الجنون إلى إطلاق آلة القمع كلّها دون حدود، فإنهم يهيئون الانفجار الذي سيقضي عليهم).

تنسجم هذه العبارة مع واقع بعض المجتمعات سببا ونتيجة، الا انها في الحالة العراقية، قد انسجمت مع السبب الذي اطلق الة القمع من عقالها، لخوف القائد وجنونه من الاخرين، حتى اصبح خائفا ومخيفا في الوقت نفسه، الا ان النتيجة، وهي القضاء عليه لم يقم بها المجتمع العراقي الخائف، بل قام بها اخرون.

سؤال قد يفرض نفسه، هل لو ان العراقيين هم الذين اسقطوا صدام حسين، هل كانوا سيتحررون من خوفهم؟

قريبا من تحليل ادمون بلان السابق، يتطرق فرانسوا لوجاندر في بحثه عن (وجوه العنف المتعددة) إلى سر نجاح هتلر من خلال العودة إلى عمل سيرج تشاخوتين (اغتصاب الجماهير بالدعاية السياسية)، فيرى أن الوسيلة الكبرى التي فرض بها هتلر ذاته وسيلة بسيطة هي (الإقناع بالقوة). وهذا ما يدعوه تشاخوتين (الاغتصاب النفسي بدعاية عاطفية قائمة على الخوف). فتحت ضغط منظومة إعلام السلطة يبدأ المجتمع، بما في ذلك قواه المعارضة، بإنتاج إيحاءات وتعبيرات تكون وليدة استجابات لإيحاءات السلطة وخطابا على خطابها، أي تكون منفعلة، بالمعنى المباشر للكلمة، بخطاب السلطة. وبذلك يقع المجتمع وقواه المعارضة للتعسف في شرك الإعلام واللغة، فينتجان ما تريده السلطة بالضبط، وإن بدا بصورة مقلوبة. وربما تكون أهم خاصية تمتاز بها اللغة المشتركة، أي لغة إعلام السلطة واللغة المنفعلة، اللغة واللغة المضادة، أنّها، كما يقول لوجاندر، تتخذ (طابعا استبداديا، بل كاذبا أو إرهابيا، يبلغ من تضييقه على الرأي العام، ما يخنق لديه كل معارضة والسعي نحو حرية تود لو تقوم (باستعادة) للكلمة تعيد إليها معنى مبتكرا. لقد أصبحت اللغة أداة مراقبة، بحيث تغدو (حرية الفكر مستحيلة الحدوث لأنه لا يكون هنالك كلمات يمكن التعبير بها عن جريمة الفكر)، كما يقول أورويل في روايته(1984). ولذلك يجب التحرر من (الخطاب المضاد) لخطاب السلطة كأساس للتحرر منها. فما لم تكن القوى المعارضة للتعسف قادرة على إنتاج خطابها الخاص المغاير من حيث الجوهر لخطاب السلطة، لن تكون قادرة على التحرر، أي ستكون عاجزة عن أن تخدم الحرية أو الديمقراطية.

ما ينطبق على المانيا في عهد هتلر، ينطبق على العراق بشكل اكبر من النموذج الألماني، الذي لم يتحرر خطاب الخائفين فيه حتى اللحظة، من ثقافة الخوف الملازمة لهم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 4/آذار/2014 - 1/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م