أيامٌ قلائل وتدخل الأزمة السورية عامها الرابع... طوال هذه الفترة،
ظلت واشنطن على ترددها في اللجوء إلى خيار القوة العسكرية المباشرة ضد
النظام السوري، البعض أرجع ذلك إلى شخصية أوباما المترددة، بعضهم الآخر
نسب المسألة إلى هزائم واشنطن في أفغانستان والعراق، آخرون ردّوها إلى
الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تعتصر واشنطن، وكثيرون وضعوا
كل ما سبق ذكره، في سياق تفسير الإحجام الأمريكي عن خوض المغامرة في
سوريا، فضلاً عن أسباب تتصل بـ"الخصوصية" السورية وحسابات الجيوبوليتيك
المعقدة في المشرق العربي والهلال الخصيب ودور إيران وغيرها من عوامل
وأسباب.
اليوم، يطلب الرئيس الأمريكي من فريقه مراجعة السياسة الأمريكية
حيال سوريا، ووضع كافة الخيارات على المائدة من دون استثناء، بما فيها
خيار اللجوء للقوة العسكرية المباشرة، فضلاً عن رفع "الفيتو" عن تزويد
المعارضة المسلحة بأسلحة "كاسرة للتوازن"، خصوصاً الصواريخ المضادة
للطائرات والدروع.
هل من الممكن أن تفتح واشنطن خياراتها على اتساعها، وصولاً للتورط
في حرب جديدة، قد تبدأ بسوريا وتمتد إلى "سائر المشرق"؟... ما الذي
يمكن أن يحفز واشنطن للعدول عن حذرها والتورط في أوحال الأزمة السورية؟...
هل سنكون أم تورط شامل، أم أن التورط البري ما زال محظوراً؟... كيف
ستعمل تطورات الأزمة الأوكرانية المفتوحة على شتى الاحتمالات
والسيناريوهات، على تحديد وجهة القرار الأمريكي؟
الموقف الأمريكي من سوريا، بدأ يشهد منذ "جنيف 2"، تصعيداً في نبرة
الخطاب ووتيرة... ارتفاع في حدة الهجوم الأمريكي على الأسد ونظامه،
تلويح بكل الخيارات، تحميل النظام وزر فشل أول جولتين تفاوضيتين في
جنيف، فتح ملف الكيماوي السوري وتحميل النظام مسؤولة عرقلة تنفيذ
الاتفاق المبرم بهذا الشأن، تقارب مع الموقف السعودي بعد التغيرات
الأخيرة التي طرأت على الإدارة السعودية للملف السوري، و"ضوء أخضر"
لتسليح المعارضة بأسلحة نوعية لطالما امتنعت واشنطن عن إشعاله، خشية
انتقال الأسلحة إلى "الأيدي الخطأ".
لكن ذلك كله، لم يحد نفعاً في تغيير موازين القوى على الأرض
السورية... النظام ما زال يحقق تقدماً ميدانياً على معظم إن لم نقل
جميع الجبهات المشتعلة... المعارضات السورية تتراجع وتقتتل وتتطرف من
دون أن تمتلك أفقاً أو أن تصبح معقد أمل وموضع رهان... المصالحات
الوطنية، باتت ظاهرة تتسع باستمرار مهددةً بتقويض نفوذ المعارضة في
مناطق انتشارها وسيطرتها... حلفاء النظام، بدوا أكثر إصراراً وحزماً في
دعمه وإسناده، الأمر الذي استفز إسرائيل كثيراً ودفعها للتخلي عن حذرها
السابق في التعامل مع الأزمة السورية، ودخولها المباشر على خط القتال
والدعم والإسناد.
واشنطن ليست بعيدة عن هذه المناخات، وثمة من بين حلفاء واشنطن،
وأركان الإدارة وصقورها، من يعتقد بأن الوقت قد حان، لتوجيه ضربات
عسكرية جوية وصاروخية موجعة للنظام، من دون التورط في إنزالات وحروب
برية، تقوض "مبدأ أوباما"، وتفتح الباب على حرب باهظة الكلفة
(تريليونية)، كما كانت عليه حربا العراق وأفغانستان.
أصحاب وجهة النظر هذه، استمدوا بعض القوة والزخم، جراء انفجار
الأزمة الأوكرانية في وجه موسكو والمجتمع الدولي... هؤلاء يراقبون عن
كثب سلوك "القيصر"، فإن هو ذهب إلى احتلال أوكرانيا أو بعضها (القرم)،
ذهبوا هم إلى تصعيد مطالباتهم بضرب روسيا في سوريا، إن لم يكن في أماكن
أخرى عديدة... وعندها ستتسع الفجوة بين صورتين: "صورة بوتين"، القائد
الفولاذي الذي يأخذ قرار الحرب من دون أن يرف له جفن، و"صورة أوباما"
القائد الضعيف والمتردد، الذي بدد هيبة واشنطن على الساحة الدولية،
وتركها نهباً لعبث قوى ودول من العيار المتوسط.
في المقابل، فإن "التسوية" في أوكرانيا، أياً كانت شروطها وظروفها،
ستجعل قرار الحرب الأمريكية على سوريا، أكثر صعوبة... البعض يعتقد أن
ثمة فرصة لمقايضة سوريا بأوكرانيا، يتخلى الكرملين عن الأسد، نظير تخلي
واشنطن وبروكسل عن حلفائهما في كييف، أو العكس... مثل هذه المقايضة
ليست قائمة، فسوريا تحتل مكانة متدنية في الحسابات الاستراتيجية
الأمريكية قياساً بأوكرانيا، وهي وإن كانت جارة جنوبية لأوروبا على شرق
المتوسط، إلا أن أوكرانيا، هي من تحتل موقع القلب في العقل والمصالح
والحسابات الأوروبية... وعلى أهمية سوريا في حسابات الكرملين السياسية
والاقتصادية والاستراتيجية، إلا إن أوكرانيا تظل بالنسبة لموسكو، شأناً
داخلياً، وقضية حياة أو موت بالنسبة للاتحاد الروسي.
مثل هذه المقايضة غير مقبولة أبداً لمختلف أطراف معادلة الصراع في
سوريا وأوكرانيا على حد سواء... بيد أن المؤكد أن تصعيد الغرب من ضغوطه
على روسيا في أوكرانيا، سيدفع "القيصر" للرد في سوريا... وأية مقامرة
يقوم بها الأخير ضد جارته ومجاله الحيوي، سيفتح عليه باب الردود في
سوريا وغير من ساحات وجبهات الاشتباك المفتوحة بين الجانبين.
الضربة العسكرية الأمريكية التي ظلت لثلاث سنوات مستبعدة، تبدو
اليوم أكثر احتمالاً، وإن كانت غير مؤكدة بعد، على أنها ستكون في حال
اندلاعها، جوية – صاروخية على الأرجح، إذ ليس من المتوقع أن يسمح
أوباما لجندي أمريكي بأن يطأ بقدمه أرض سوريا.
* مركز القدس للدراسات السياسية |