ما يجري في مصر يعيد الديمقراطية لأسئلة البدايات

د. إبراهيم أبراش

 

بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على هبوب الموجة الرابعة للديمقراطية التي مست بعض بنيات الأنظمة العربية وتم المراهنة عليها لإحداث نقلة في الانتقال نحو الديمقراطية، فإن ما يجري في العالم العربي وخصوصا في مصر يعيد سؤال الديمقراطية إلى بداياته الأولى: ما هي الديمقراطية؟ وكيف يتم الانتقال نحوها؟ وعلاقة الديمقراطية بالجيش وحكم العسكر؟ ودور الشخصيات الكاريزمية أو ا(لزعامة) بالديمقراطية؟. تراجعت للخلف الثورة ومبادئها وأهدافها، كما تراجع للوراء الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية للشعب، ولماما ما نسمع عن الأحزاب السياسية. لمدة ثلاث سنوات والقضية المركزية تتمحور حول من يَحكم مصر، ليس كأحزاب بل كأشخاص وبرز في هذا السياق وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي.

سواء رشح المشير السيسي نفسه للانتخابات الرئاسية أو لم يرشح، وبغض النظر عن الرئيس القادم عبر صناديق الانتخابات، فإن المشير عبد الفتاح السيسي ومن ورائه المؤسسة العسكرية هما من سيحكم مصر فعليا وليس الرئيس المنتخب. فما جرى منذ 30 يونيو 2013 تحديدا حتى اليوم كرس السيسي زعيما أوحدا لمصر، وحتى إن لم يرشح السيسي نفسه للرئاسة فإن الرئيس القادم يعلم أن كرسي الرئاسة حتى وإن فاز به عن طريق الانتخابات فإنه في حقيقة الأمر لن يكون أكثر من منحة من السيسي والمؤسسة العسكرية، وهذا سيجعل الرئيس القادم يحسب ألف حساب للسيسي ولمؤسسة الجيش. ولنا أن نتصور طبيعة العلاقة بين الرئيس المنتخب القادم والمشير السيسي في حالة عدم تقدم السيسي للانتخابات الرئاسية.

ما يجري في مصر يستحضر ظاهرة في العالم العربي تستحق الوقوف عندها بالرغم من أنها ليست وليدة اليوم بل صاحبت الحياة السياسية العربية على الأقل منذ بداية القرن العشرين. وهي أنه سواء كان الشعب مستقلا أو خاضعا للاستعمار، وسواء كان النظام ملكيا أو رئاسيا،غنيا أو فقيرا، ثوريا اشتراكيا أو يمينيا رجعيا، يرفع شعارات الديمقراطية ويتوفر على مؤسساتها أو يرفض الديمقراطية ويُحكم حكما استبداديا الخ، في جميع الحالات هناك رجل واحد وهو الزعيم الذي يلتف حوله الجميع قناعة أو يخضع له الجميع خوفا ورهبة أو بالجميع بين الاثنين، شخص يوجه الأمور السياسية ويراهن عليه الشعب كمنقذ، وهذه الظاهرة تمتد من الأنظمة السياسية إلى الأحزاب والجماعات السياسية.

لو عدنا للتاريخ السياسي للمجتمعات العربية سنجد أن تاريخ الشعوب ارتبط بأشخاص وأن كل ما يقال عن الديمقراطية – حكم الشعب أو حكم ممثلين عن الشعب - والأحزاب أو المجتمع المدني، مجرد مسميات أو مؤسسات شكلية يقتصر دورها غالبا على إضفاء شكلا ديمقراطيا أو (شرعية ديمقراطية) على الزعيم الذي يحكم اعتمادا على الجيش أو الطائفة أو القبيلة. يمكن أن نفهم حكم الشخص في الأنظمة الملكية ولكن الملفت للنظر أن هذه الظاهرة موجودة في الأنظمة الجمهورية والثورية أكثر من الأنظمة الملكية، فملوك الثورة قد يكونوا أكثر استبدادا من ملوك الوراثة، وموجودة عند الأحزاب والأيديولوجيات الثورية والتقدمية حيث ارتبطت الناصرية بجمال عبد الناصر والبعث بصدام حسين والأسد، كما عند الجماعات وأيديولوجيات الإسلام السياسي التي ترتبط كل منها بأمير الجماعة الذي له سلطة الحياة والموت على أفراد الجماعة بل وعلى المجتمع بكامله.

يمكن تفسير هذه الظاهرة من منظور علم الاجتماع السياسي حيث يمكن تفسيرها بوطأة الثقافة السياسية والموروث السياسي العربي على النظام السياسي ومحاولات دمقرطة الحياة السياسية، حيث لا يمكن لأي نظام سياسي جديد حتى وإن كان نتاج ثورة أن يقفز بعيدا عن الثقافة السياسية السائدة في المجتمع، ومجتمعاتنا العربية ما زالت أقرب للقبيلة أو تجمع لقبائل وطوائف ولم تصل لمرحلة الانصهار في الدولة الأمة. هذا لا يعني الخضوع للموروث السياسي أو للواقع القائم أو محاربة التحديث السياسي باسم الأصالة والخصوصيات الاجتماعية والثقافية، بل المطلوب التدرج في الانتقال الديمقراطي مع درجة من الحزم مع القوى المعيقة للتطور والتحديث. هذا الأمر يتطلب وجود زعيم ديمقراطي أو نخبة ديمقراطية لها حضور واحترام عند الشعب يقود أو تقود قاطرة التطوير والتحديث الديمقراطي في مرحلة انتقالية لحين نضج الظروف لنظام ديمقراطي حقيقي يتجاوز المجتمع الأبوي ليقوم على المواطنة وليس الشخصنة، على النظام السياسي العادل وليس حكم المستبد العادل.

هذه المقاربة موجودة أيضا في أدبيات الديمقراطية حيث صنف بعض المفكرين منذ سنوات أشكال الديمقراطية وكان من بينها الديمقراطية الموجهة أو الأبوية، وهي حالة ديمقراطية انتقالية من مجتمع غير ديمقراطي إلى الديمقراطية، وتسمى بهذا الاسم لأن عملية الانتقال الديمقراطي تتم تحت إشراف ورعاية جهة قوية لا تتولى مناصب سياسية منبثقة عن العملية الديمقراطية ولكنها تحكم بالفعل بالخفاء وترعى عملية الانتقال وتوجهه وتتدخل عند انحراف المسار الديمقراطي أو خروج من انتخبهم الشعب عن تعهداتهم وعن الدستور الديمقراطي.، فهذه الجهة بمثابة الأب الذي يراقب ويرعى أبنائه وهم يكبرون ويتدخل في حالة حدوث انحراف أو سلوك مشين.

نماذج الديمقراطيات الموجهة كثيرة، فهناك النموذج التركي حيث كان الجيش هو الحاكم الفعلي للبلاد والأحزاب والقوى المنتخبة تمارس الحكم تحت الإشراف الصارم للجيش حامي حمى الدستور العلماني، وكان يتدخل عندما ينحرف الحزب الذي انتخبه الشعب عن الدستور العلماني أو تصبح البلاد في حالة أزمة. أيضا يمكن تصنيف النظام السياسي في المغرب والأردن ضمن الديمقراطيات الموجهة أو الأبوية حيث تقوم المؤسسة الملكية برعاية الانتقال الديمقراطي وتتدخل عند اللزوم بما يحافظ على وحدة الأمة وضمان السلم الاجتماعي واستمرار المسيرة الديمقراطية بعيدة عن شطحات ومغامرات بعض الأحزاب والجماعات, وليست الجزائر بعيدة عن الموضوع حيث إن الشكل الديمقراطي الخارجي للنظام لا يُخفي أن الجيش هو من يحكم بالفعل ويتدخل عند الضرورة بل له دور في اختيار الرئيس أو تجديد ولايته،ونعتقد أن إعادة ترشيح بوتفليقة للرئاسة للمرة الرابعة لم يكن قرارا منفردا لبوتفليقة بل قرارا من الجيش.

كل الأنظمة الديمقراطية في العالم مرت بمرحلة الديمقراطية الموجهة كمرحلة لا بد منها، وبالتالي علينا أن لا نتخوف من هكذا نمط ديمقراطي سواء في مصر أو غيرها من البلدان العربية وسواء كان الأب الموجه للديمقراطية الجيش أو المؤسسة الملكية، ولكن يجب وضع الضمانات بأن تكون الجهة أو الشخص الذي يوجهها ديمقراطيا حقيقة وأن يفسح المجال للقوى السياسية الأخرى لمشاركة حقيقية في الحياة السياسية وأن يتم الانتقال مباشرة من الصراع على السلطة إلى التفرغ لقضايا الشعب الرئيسة من مسكن وغذاء ومواصلات وتعليم وصحة، وخصوصا أن المجتمع المصري يعاني من خلل في كل هذه القضايا.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/آذار/2014 - 30/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م