لم يفاجئني صدور هذه المجموعة، ولا انتسابها لمنطقة الشعر وريادتها
لنوع شعري محدد، بل توقعت هذا وأكثر طالما ان المجموعة حملت اسما
رياديا او مشاركا في صنع الريادة هو الدكتور امجد حميد عبد الله الذي
يمتلك بصمات بيض على مجموعة من الريادات كما سيتضح بعد قليل، وكنت اعرف
هذا الاسم مذ كانت إقامتي في بغداد وعرفت منه وعنه أشياء كثيرة بدءا من
الأفكار والحوارات وانتهاءا بقول الشعر والدرس الأكاديمي المتفتح.
وقد سمعت بقرب صدور المجموعة قبل أن استلم نسختي منها واتملاها جيدا
وأتوقف مليا أمام قصائدها لأتوصل لإجابة شافية عن سؤال حارق:
ترى أين خاصية الريادة في هذه المجموعة؟ وإذا كنا في بلد الشعر
الأول فلا بد من توفر مجموعة من الماهيات تجعلنا نقر – او نعترف –
بوجود أسباب تجعلنا نقول ونكتب عن الريادة الشعرية و الفنية التي اكتست
بملامح عراقية او عربيةّ!.
وقبل ان أحصي ماهيات هذه المجموعة – التي حملت عنوانا لافتا هو محض
نقاط... – قبل ان اقر بواقعة الريادة من عدمها علي ان أتوقف أمام جهود
صاحبها وأنشطته الثقافية والأكاديمية المختلفة، وقد ميزت فيه قبل ربع
قرن قدرة واضحة على التنظير والدرس جعلتني اكتب عنه منذ سنوات انه
يسعى للغد اكثر مما يسيأه الحاضر وانه يتبنى ما سيكون أكثر من تعويله
على ما هو كائن فقد جذبني فيه أمران: أولهما انضمامه الى كتل التجديد
والحداثة في الثقافية وقد توضح هذا بشكل جلي بانضوائه الى المدرسة
الريادية التي أنشأها الشاعر العراقي المبدع مشتاق عباس معن رائد
القصيدة الرقمية التفاعلية على مستوى العرب واللغة العربية في العالم
وكان مسبّبا لي احتضان د. امجد لهذه التجربة بل واستماتته بالذود عنها:
توضيحا وإفهاما وحثا ونشرا وردا على جوقة الجاهلين والذين في نفوسهم
أمراض الوسوسة والفوبيا.
وثانيا قدرة د. امجد على تحديث الدرس الأكاديمي وتخليصه من آفات
الجمود والنمط والمراوحة على آثار من مضوا، وفي هذا المجال تترى رحلة
خصبة ومضنية في الوقت ذاته للدكتور امجد حميد اذ انه حقق(في ضوء براهين)
استجابات فاعلة للتحديات التي واجهها في سيرته الثقافية والحياتية،
ولهذا كله وجدنا أننا بحاجة ماسة للنظر والتقويم لتجربته الشعرية
الجديدة استئناسا بماضيه النقدي ألموار لا واقعه الراهن فحسب.
أول برهان نظري يقدمه لنا الشاعر للدلالة على صواب نهجه الريادي هو
انه يظهر، في مستهل هذه المجموعة، ما يسميه (بيان العمود الومضة) وفيه
يشرح بلغة شعرية شفافة ماهية الشعر وسبب الريادة فيه وهل الإقدام على
خطوته باتت ضرورة منه لتجديد الشعر أم لكي يقال انه جدد في هيكل الشعر
وروحه ومفاهيمه حتى ينوّه به كشاعر ريادي ؟!.
ولم يعد غريبا علينا ان الشاعر في بيانه يقرر في البدء ان الشعر هو
بمثابة " حلم " ماثل للخيال لكنه (المغرق في التجدد، المولع بالتفلت من
قبضة الراهن،... يسلبنا المكوث كلما سنحت له الفرصة، لينطلق بنا مجددا
نحو فسحة جديدة من الأمل..) هكذا يكون الشاعر مؤمنا بقدرة الشعر على
التحول وإمكانيته للريادة الشعرية بل وحقه في صنع هذه الريادة انطلاقا
من فهمه للشعر والصيرورة التي حكمته ماضيا وراهنا ، ثم يصل المولع
بالريادة الى استبصار ما يريده طالما ان " الشعر يتنقل في نسغ كتاباتنا
نبضا يمدها بالشعرية على الرغم من تعدد الأشكال، ويوقظ فينا أنفسنا
التي نسيتها الغفوة عند آخر وجع حملته جراحاتنا الواقفة على كل الأبواب
الموصدة" وحتى لا تبقى الجراح أمام أبواب موصدة فهو يقنن محاولته
الريادية بشروط لا يحيد عنها فهو يطلق على قصيدته الاجد اسم القصيدة
الومضة ولا بد من توفر اشتراطات فنية فيها مثل:
• العمود الومضة.. قصيدة رؤيا لا تلم أوصالها الصور
• هذه القصيدة تعتمد التكثيف والاختزال
• من أدواتها الحذف وانفتاح التأويل
• تفتح نافذة الرؤية بما لا يزيد على ستة أبيات بعد أن كانت القصيدة
تعرّف بسبعة فأكثر
• هي كلها أصغر وحدة فيها، تبدأ حيث تنتهي وكأنها كلمة واحدة
هذه هي الشروط او الميزات الفنية التي اثبتها الشاعر امجد حميد
وأراد من خلالها تمييز محاولته عن سواها من قصائد السابقين واللاحقين
ليرتقي بها الى سلّم الريادة المأمول، ولكن من خلال اطلاعنا على تلك
الشروط وتملي مدلولاتها عرفنا ان الريادة الشعرية لا تحتاج الى شروط
وفكر ومميزات بل هي أحوج ما تكون الى نماذج تطبيقية تعطيها سمة الريادة
وتفرزها عما سبقها ولحقها لتكون رائدة فعلا وتكتسي بالخصوصية والتميّز
حيثما ذكرت وفي التاريخ الشعري أيضا.. فهل هذا ما يحصل عليه قارئ
مجموعة (...) الرائدة للقصيدة الومضة ؟!.
لا بد لنا، وربما لغيرنا، ان يتمعن جيدا في النماذج الشعرية التي
اثبتها الشاعر في مجموعته قبل ان يخلص القارئ الى أي حكم ولا سيما
القول – المستند الى براهين – بوصول الشاعر الى مستوى الريادة من عدمه
وهذا يتطلب من القارئ – بله المتخصص – ان يتمعن في ما جاء به الشاعر من
اشتراطات ونماذج، لنقرا مثلا:
أعالي الموقد
جبلٌ غادرَ أحضانَ السفوحْ
لا صدًى يعلو ولا نارٌ تلوحْ
وعلى الموقد صبحٌ أطفأتْ
ضوءَه النارُ فما عادَ يفوحْ
رعشةُ الأزميل شؤمٌ ناضحٌ
بالتماثيلِ الثكالى والجروحْ
===============================
اكتحال
يا دمعةً تستردُّها المقل ُ
بجمـرِ هذا النشيـجِ تكتحل ُ
كلُّ المواويلِ حينَ تسمعني
تَسُـدُّ أجفانَـها وتنهمـل ُ
كأنّ جرحي أفاقَ من ألم ٍ
وأنبتَ الماءَ في دمي الوجل ُ
والوحشةُ اللاتردُّ حرقتُها
بوطأةِ الراحليـنَ تتّصـل ُ
==============================
نــــــــــزف
مهلا عراقَ النازفينَ نفوسَهم
أيُّ النخيلِ عن الرياحِ بعيد ُ؟
نسجتْ خيوطَ الصبرِ عينُك في المدى
فكأنّ زحفَ حروفها تجويد ُ
جدْ بالعطاءِ وقل ْ لقصركَ لم تزلْ
بئرٌ معطلة ً وأنتَ مشيد ُ
ذَرهم تزاوَرُ شمسُهم عن كهفِهم
ولُجِ الخلودَ فما هناكَ وَصيد ُ
===============================
عفرني الماء
عوّدتني الأرضُ أن تحملني
في عروقِ الناي لوناً من شجن ْ
تنسلُ الأشياءُ في ذاكـرتي
وجلاً يعدو وبوحاً من عفـن ْ
عفَّـرَ الماءُ ترابي وسرى
إنّ خطواتي على الأرض وطن ْ
وهنا اذ نقوم بنشر أربعة نماذج شعرية منتقاة من المجموعة الشعرية
الأولى لقصيدة "العمود الومضة" التي توصل إليها مؤخرا الشاعر
والأكاديمي البارز الدكتور امجد حميد عبد الله ونشرها في مجموعة أصبحت
الرائدة عربيا كونها أول مجموعة عمود ومضة في الشعر العربي، فإننا نود
ان نطرح سؤالا هاما: أهذه هي المرة الأولى التي تكتب وتنشر فيها قصيدة
حتى لو اختلف فيها اسمها؟! بمعنى اخر هل ان الشاعر الدكتور امجد حميد
عبد الله هو أول من كتب قصيدة الومضة الشعرية ولم يسبقه إليها احد؟.
الواقع يقول ان هناك محاولات عدة سابقة لهذا النمط الشعري وقد نشرت
منذ سنوات ولا سيما في مجموعات خاصة وهنا ينبغي علينا مراجعة المجموعات
الشعرية للدكتور مشتاق عباس معن الذي نشر مجموعة من هذه القصائد من غير
ان يسميها او يحصرها في قالب معين وهنا لا بد من ان نتذكر ما قاله
الدكتور امجد حميد في بيانه الشعري الذي استهل به هذه المجموعة حين
اكدّ ان الومضة الشعرية.. اسم حضر في الذاكرة لكنه لم ينل نصيبه من
التعريف النقدي، ربما لأنه لم يصل إلى الوضوح في عطائه الأدبي،.. ولكن
قصائد العمود الومضة تحاول تخطي تلك الحواجز، ولعل هناك من قدم ومضة
شعرية هنا وأخرى هناك، من العمود أو التفعيلة أو النثر.. ولكن يبدو أن
هذه أول مجموعة شعرية كلها من العمود الومضة تخاطر بكونه نمطا يستطيع
البقاء، وهذا ما نصل اليه او نقر به من ان بعض الشعراء قد توصلوا الى
هذه القصيدة فكتبوها ونشروها ولكنها محاولات عابرة (تذكرنا بما سبق
ثورة الشعري الحديث من محاولات بعض الشعراء) ولكنها محاولات ضائعة لا
يمكن إدخالها او عدها ضمن تجارب الشعر الحديث فالمحك الوحيد هو لمن
يكتب عن محاولته والتنظير لاتجاهه الشعري وتعميق اسم او نمط فنه وبهذا
وحده يكون رائدا لاتجاه ومشرعا لنمط فني يفرزه عن سواه، وبيسر شديد
يمكننا الوثوق مما نقول: ان الدكتور امجد حميد عبد الله الذي كتب ونقد
وأطّر وعرف مبكرا ما يريد هو الرائد فنيا لقصيدة " العمود الومضة " !.
newnadhum@yahoo.com |