أوكرانيا وثمن التغيير

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: بعد أيام من تخلّص الشعب الأوكراني من رئيسه المعزول فيكتور يانوكوفيتش وسياساته الاقتصادية الفاشلة، اصبح وجهاً لوجه امام تهديد سياسي باحتمال انزلاق البلاد نحو مخاطر التقسيم وتحول البلد الواحد الواحد الى اثنين؛ احدهما للمنحدرين من أصول روسية والموالين لموسكو، والاخرى للساكنين في الجزء الغربي المتطلعين للانضمام الى الاتحاد الاوربي، وجاء هذا التحذير على لسان الرئيس المؤقت للبلاد أوليكسندر تيرتشينوف، الذي عينه البرلمان مؤخراً بعد سيطرة المعارضة الأوكرانية على مقاليد السلطة.

وكان مفهوماً الموقف الروسي المتحفظ من الانقلاب السلمي والسريع الحاصل في كييف وقرار البرلمان عزل الرئيس الموالي لموسكو، فاي رد فعل عنيف او سريع موازٍ لسرعة الاحداث في هذا البلد سيدفعها الى مواجهة مكشوفة ليس فقط مع الشعب الاوكراني، بل مع الغرب بأسره، وهو ما لاتريده موسكو التي تحرص خلال الفترة الماضية على كسب الامتيازات السياسية مقابل غريمتها الولايات المتحدة، في الساحة الدولية، ولعل نجاحها في الشرق الاوسط وتحديداً في سوريا، يجعلها اكثر حرصاً للحفاظ على هذه المكاسب. لذا جاء الموقف الروسي واضحاً بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لاوكرانيا، كما عبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن عدم رضا موسكو عن التحول الحاصل، وذلك باسلوب دبلوماسي حذر حيث قال: "لقد استولت المعارضة على السلطة في كييف ورفضت القاء السلاح وفضلت سلوك درب العنف".

هذا الموقف الروسي يأتي من معرفة دقيقة بالخيوط التي حركت الاحداث داخل العاصمة كييف وخلقت أجواء المواجهات العنيفة بين المتظاهرين وقوى الامن، فكانت مشاهد الحرق والدمار واراقة الدماء التي وظفتها وسائل الاعلام الغربية للتسريع في إتمام مشروع التحول السياسي من المولاة لموسكو، الى الموالاة الى الغرب، ففي الوقت الذي كان الشعب الاوكراني يعيش حلم الانضمام الى الاتحاد الاوربي ليستنشق الرفاهية ورغد العيش، كانت هنالك تحركات سياسية ومخابراتية في واشنطن تعمل زرع بذور المصالح الامريكية في اوكرانيا، وهي الجمهورية المجاورة لروسيا الاتحادية من جهة الجنوب الغربي. فبداية الأزمة كانت اقتصادية بحتة، حيث كانت الشرارة في رفض الرئيس المعزول اتفاقية مع الاتحاد الاوربي في تشرين الثاني من العام الماضي، مقابل دعم مالي واقتصادي تقدمه موسكو، ثم تحولت الى المسار السياسي ومطالبة المتظاهرين الرئيس "يانوكوفيتش" بالتنحّي عن الحكم، الامر الذي يجعل أي تدخل روسي في الاحداث الداخلية، على أنه انحياز واضح للرئيس المعزول، او الخشية على المصالح الروسية في اوكرانيا. وقد ذهب المراقبون، الى أن الاتفاقية التي تباحث حولها الرئيس المعزول مع الاتحاد الاوربي، وكان من المزمع التوقيع عليها، ربما تعرضت للتصدّع والاحباط بفعل ضغوطات ودسائس غربية وامريكية جعلت شروطها تعجيزية وصعبة التحقيق على الحكومة السابقة، الامر الذي دفعها لإلغائها، وهو ما أثار غضب الشعب الاوكراني، ونقل الخلاف من الاروقة الدبلوماسية الى الشارع.

وهذا يفسر الدعم الامريكي الصريح للمعارضة، او بالاحرى للمتظاهرين والمحتجين في العاصمة كييف لتحقيق مطالبهم. فقد وقف السناتور الجمهوري "جون ماكين" في ساحة "الاستقلال" وسط المتظاهرين في كييف خلال المواجهات وهو يهتف: "امريكا معكم.."، واشاد ايضا بالمتظاهرين باللغة الاوكرانية وقال "سلام لاوكرانيا وسلام للميدان..".

وقد لاحظ المراقبون بوضوح مؤشرات على طموحات سياسية في مسرة الدعم الامريكي للمعارضة الاوكرانية، تمثلت في امرين يمكن ان يشكلا في المستقبل تهديداً للسلام والاستقرار في اوكرانيا:

الأول: الدعم الصريح الواضح من جانب واشنطن للمعارضة الاوكرانية من خلال اللقاءات المستمرة بين الجانبين خلال فترة الازمة وربما قبلها بفترة طويلة، حيث تنشط جماعات يمينية موالية للغرب في اوكرانيا منذ سنوات وتطالب بانضمام البلاد كليةً الى الاتحاد الاوربي والغرب. وقد توج هذا الدعم بلقاء وزير الخارجية الامريكي جون كيرى زعماء المعارضة الأوكرانية على هامش المؤتمر الأمنى فى ميونخ بالمانية. وبالرغم من ان كيري كان يغلف طموحه واهدافه الحقيقية بمزاعم التوصل الى "حكومة وحدة وطنية"، من خلال التوصل الى اتفاق مزعوم بين الحكومة المنهارة والمعارضة، فانه لم يخف خلال تصريحاته "دعم الولايات المتحدة الراسخ للطموحات الأوروبية الديمقراطية للشعب الأوكراني".

الثاني: فضيحة المكالمة الهاتفية بين مساعدة وزير الخارجية الامريكي مع السفير الامريكي في كييف، خلال الاحداث، حيث كان الحديث حول مطالب المتظاهرين ذات الصبغة الاقتصادية وشروط الاتحاد الأوربي وظروفه لضمّ اوكرانيا، فكان جواب المسوؤلة الامريكية، بأن "ليذهب الاتحاد الاوربي الى الجحيم.."!.

وكان أول من تأثر بهذا التسريب الخطير، هم المعارضة الاوكرانية حيث اتضح للعالم ان هناك صراعاً خفياً على النفوذ في هذا البلد، وهم المرشحون لأن يكونوا احجار في رقعة الشطرنج، وليس هذا وحسب، إنما الاشكالية الاخرى التي سيواجهونها مستقبلاً في هيكلية الحكم التي ينتظرها الشعب الاوكراني الذي يرى اولى استحقاقاته الجانب الاقتصادي والارتقاء بالمستوى المعيشي، فاذا وجد انه منتصراً على الحاكم "الديكتاتور" الموالي لموسكو والمستأثر بالسلطة وامكانات الدولة، فانه يبحث اليوم عمن يحقق طموحاته وأهدافه، وكان الانضمام الى الاتحاد الاوربي بمنزلة خشبة الخلاص او الحلم الذي راوده منذ سنوات، وربما يقارن بعض المراقبين بين الحلم الأوكراني والحلم التركي، مع فارق البنية التحتية في تركيا التي ساعدت على استبداله بحلم آخر قابل للتحقق متمثل بالقدرات الداخلية على النمو والتطور، وهو ما حصل فعلاً.

هذا على الصعيد السياسي، أما على الصعيد الاقتصادي والمعيشي، فان كل المؤشرات تدل على وقوف اوكرانيا على حافة الانهيار الاقتصادي بسبب الشلل في الحياة العامة خلال الاشهر الثلاثة من الاضطرابات في الشوارع وتعطل المؤسسات الحكومية والتجارية في العاصمة، علماً أن المراقبين لاحظوا تمحور حركة الاحتجاج في قلب العاصمة دون سائر المدن الاوكرانية، مما يعزز الاعتقاد بوجود اصرار واضح على تفجير قنبلة الرفض السياسي بلغة اقتصادية بوجه الحكام الموالون لموسكو. لذا كانت التطمينات والوعود من لندن وواشنطن ومفوضية العلاقات الخارجية في الاتحاد الاوربي، بمساعدة اوكرانيا للخروج من أزمتها الاقتصادية، فقد أعلن وزير الخزانة الأمريكي "جاكوب ليو" أن بلاده على أهبة الاستعداد لتقديم العون لاوكرانيا. وقال وزير الخزانة البريطاني "جورج اوزبورن" إن بريطانيا على استعداد لتقديم المساعادات المالية لأوكرانيا عبر مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي.

من جانبها، اعلنت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الاوروبي "كاثرين اشتن" عن نيتها التوجه الى العاصمة الأوكرانية كييف لبحث الدعم الذي يمكن للاتحاد تقديمه لأوكرانيا "لاجل التوصل الى حل نهائي للازمة السياسية والخطوات الواجب اتخاذها لاعادة الاستقرار الى الاقتصاد الأوكراني".

ولكن ما هو ثمن هذا الدعم السياسي والاقتصادي لاوكرانيا؟

هذا هو السؤال الكبير الذي يوجهه المراقبون والمتابعون لما يجري في كييف، فالنزاعات الداخلية العنيفة التي تدار بخيوط خارجية، لم تخبو نيرانها إلا باثمان دفعتها الشعوب لعواصم معنية ذات مصالح كبرى، وربما  يتمثل الثمن في الخسائر المادية والاضرار بالبنية الاقتصادية، وربما يكون على شكل تشريد ونزوح للأهالي خوفاً من نيران الحرب، او قتل واراقة للدماء في الشوارع وغيرها من اشكال الثمن المؤلم من اجل التغيير المأمّل نحو الأحسن.

مما يمكن استشرافه من المرحلة الراهنة، عدم وجود رؤية موحدة لدى النخبة السياسية في اوكرانيا لمستقبل سياسي واقتصادي للبلاد، في ظل تجاذب روسي – اوربي – امريكي على هذا البلد ذو الموقع الاستراتيجي، والمطل على البحر الاسود، يُضاف الى التعدد الاثني الموجود على الصعيد الاجتماعي، حيث هناك جزء كبير في البلاد ناطقين بالروسية، فيما الجزء الآخر ناطقين بالاوكرانية. وحسب المصادر فانه الى جانب الاحزاب الميالة الى الغرب والانضمام الى الاتحاد الاوربي، هناك تيار يطلق عليهم "القطاع اليميني"، ومؤلف من شريحة الشباب يتبنون أفكارا يمينية، وينحدرون من مناطق مختلفة بأوكرانيا، ومن بينهم من يتحدثون الأوكرانية والروسية أيضاً. يرتدي أعضاؤها غالبا أقنعة وخوذات وأدوات للحماية في أقدامهم وأيديهم ويحملون العصي والقضبان الحديدية خلال مواجهتهم مع شرطة مكافحة الشغب. لكن على عكس المحتجين الآخرين، لا يؤيد معظم هؤلاء فكرة الانضمام للاتحاد الأوروبي، الذي يعتبرونه "قامعا للدول الأوروبية". وحسب المصادر فان هذا التنظيم ينأى بنفسه عن التيار القومي الذي ينظر إليه على أنه يتنبى نزعة ليبرالية وإصلاحية شديدة.

فاذا كانت الاحتجاجات والمطالبة بزوال الرئيس السابق قد وحدت الاحزاب والتيارات المناصرة للغرب والاخرى القومية المتشددة والمحافظين، فان المراقبين ربما لا يرون هذا الوفاق في المرحلة المقبلة مع دخول البلاد مرحلة البناء الجديد والتحول نحو الاقتصاد المفتوح مع استيراد أنماط متعددة من العواصم الغربية لنظام اقتصادي وسياسي لهذا البلد، وبالنتيجة تكون اوكرانيا مفتوحة على احتمالات التقسيم او النزاع المستمر على السلطة في كييف، كما هو حال تجارب التحول السياسي في العالم التي تحركها الخيوط من الاعلى.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 27/شباط/2014 - 26/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م