موروث الثقافة السلفية

اساس محنتنا الحضارية المعاصرة.. !

هلال آل فخرالدين

 

لقد نشأ الفقه السياسي الإسلامي متكيفا مع واقع القهر والاستبداد الذي خلفته صفقة (السقيفة)، ولم يقتصر هذا التكيف على تفسير التاريخ السياسي الإسلامي، بل تجاوزها إلى النظرية السياسية الإسلامية. والذي اصل له الاشعري، ونظر له الماوردي والفراء، وتحت مظلة السلطان وبأوامر منه، كما اكدوها في مقدمة مصنفيهما (الاداب السلطانية)، وغيرها من مصنفات الفقه السياسي الاسلامي، وهو ما يجعل المهمة اليوم عسيرة. ولا بد للدارس للفقه السياسي والتاريخ الإسلامي من الانتباه لهذه الظاهرة، والاجتهاد والبحث والتنقيب لبناء صورة دقيقة لما حدث في صدر الإسلام من فتن وخلافات سياسية لا تزال تلقي بظلالها على الأمة حتى اليوم. والبحث في هذا المجال أقرب إلى تنقيب عالم الآثار في دراسة الأطلال التي عبثت بها عوادي الزمان منها الى الاطلاع في النصوص والاخبار.

والذي يزيد في عسر المهمة الخلط الضمني بين الوحي والتاريخ في المرجعية، وهو أمر سائد في الفكر الإسلامي اليوم، جراء نقص في الوعي بالتاريخ لا يميز بين صورته وعبرته، وتقصيرٍ في دراسة حياة السلف دراسة استقصائية تلم بكل جوانبها المضيئة والقاتمة، ولا تقف عند سرد المناقب فقط. إن الذي يتأمل نصوص الشرع ومصائر الأمم يدرك أن الخلط بين المبادئ والأشخاص من أسوء الآثار الفكرية والعملية. ورغم ان ائمة السلف يؤكد ان النبي(ص) أمرنا باتباع سنة الخلفاء من بعده بسحبها على الخلفاء الاربعة وان تعارضت او تناقضت مواقفهم (إن صح هذا الحديث وعلى سبيل سرد الوقائع الذى يتمسكون بها)، لكنه قيدها بالرشد: (وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي). وفي ذلك درس ثمين في التمييز بين الشخص والمبدأ، حتى ولو كان ذلك الشخص أحد الخلفاء بكل أسف - في قراءتنا –الراشدين. لكن داء تجسيد المبادئ في الأشخاص ساد لحياة السلف، حتى الذين هم غير راشدين منهم، فاستحال الدفاع عن الصحابة إلى دفاع عن الظلم السياسي، والانظمة الجائرة وتبريرٍ للجبرية والخنوع.

إن الانفعال السائد في الدفاع عن السلف قد أهدر قدسية المبادئ حرصا على مكانة الأشخاص، واستحال ردا للغلو بغلو. إن ثقافتنا التاريخية المأزومة جزء من محنتنا الراهنة. والعلاقة بين الثقافة المأزومة المريضة والاستبداد السياسي علاقة وجودية، ولذلك لا عجب أنْ كان السحر ثقافة المصريين أيام الفراعنة. وقد أثمرت ثقافتنا التاريخية المريضة المفارقات الغريبة، من مظاهرها أن ضحايا الاستبداد في العالم الإسلامي اليوم هم أقوى المدافعين عنه فكريا، وأشد المبررين له أخلاقيا واشد المتأولين اجتهاديا.. وهم لا يشعرون.

لقد تغلب المجتمع الإسلامي الأول على الاعراف الجاهلية والخرافات العقائدية التي نبعت من اوساطه، لكنه انهزم أمام التسلطات السياسية التي نبعت من قلبه. وتلك الردة السياسية المتمثلة في تحويل الخلافة إلى ملك عضوض وتسلط بالقهر (السيف) هي التي رسمت صيرورة الحضارة الإسلامية ومآلها، ولا تزال تتحكم في حياة المسلمين حتى اليوم.

وفي تلك الاجواء التسلطية الخانقة كانت الأولوية عند بعض علماء السنة في الماضي هي كشف (فضائح الباطنية) و(الرد على الشيعة والقدرية) و(اهل البدع) و(محاربة الرافضة)، لانها مساحة جاذبة، لإغواء الامة واشغالها، وخلق أعداء وهميين، لتغطية على انتهاكات الشرع، من قبل الطغاة، والتعتيم على استشراء فسادهم، وعظيم ظلمهم من شرقها الى غربها. فإن الأولوية اليوم هي كشف فضائح المستبدين، وتجريدهم من أي شرعية أخلاقية أو قداسة دينية او امارة توارثية تاريخية. بمزاعم اثارة (الفتنة). إضافة إلى أن البدع السياسية بل والجرائم السياسية لا تقل خطورة عن بدع الضلال والانحراف، كما تشهد به عبرة أربعة عشر قرنا من تاريخ الإسلام.

لكن كشف فضائح المستبدين المعاصرين غير ممكن ما دام الحديث عن الانحرافات السياسية التي بدأت في عصر الصحابة مطبوع بطابع التبرير والتأويل والدفاع، لا بطابع الدراسة المجردة الهادفة إلى الاعتبار، وما دام الحديث عن تلك الفتن والخلافات السياسية يتحكم فيه فقه التحفظ السلفي(التسلطي)، لا فقه التقويم الرسالي (الاجتهادي). ذلك أن من طبيعة المبدأ الأخلاقي العموم والاطراد، فليس من الممكن تحريم الظلم السياسي على الخلف، وإباحته للسلف، وهذا ما سيجعلهم يقعوا في دوامة تناقض فكري وفقهي وأخلاقي.

لهذا كان التحرج من الخوض في الخلافات السياسية بين الصحابة واضحا وشائع الدى علماء السنة، لانه يفتح ابواب من المباحث وملفات من القضايا ختموا عليها بالشمع الاحمر لان فيها كشف لحقائق لم يستطيعوا الاجابة عليها مهما برروا او زيفوا. لكن ذلك لم يمنعهم من الخوض فيا لغاية التعليم والتأصيل والاعتبار. وقد أفرد الحافظ الهيثمي في مجمعه بابا بعنوانٍ ذي دلالة، باب (فيما شجر بين أصحاب رسول الله عليه السلام) ولولا أن الإمام أحمد وأصحاب هذه الكتب أخرجوه ما أخرجته، وهو يقصد بـ(أصحاب هذه الكتب) أصحاب المسانيد التي جمعها الهيثمي في كتابه، كالطبراني والبزار وأبي يعلى.. فالهيثمي يلخص هنا الإشكال: لا ينبغي التخوض في هذا الموضوع لمجرد التسلية وتزجية الوقت، لكن الحديث فيه يكون أحيانا ضرورة علمية وعملية وليس هو بالبدعة المستحدثة، بل سبق إليه أكابر من أهل السنة والحديث، كالإمام أحمد وغيره. إنتهى.

ومهما يعترضْ معترض أو يجادلْ مجادل بأن الكتابة في موضوع الخلافات السياسية بين الصحابة كشف لجراح الماضي السحيق، وجدل نظري في غير طائل، وفتح لباب التطاول على الأكابر.. فإن الأمة لن تخرج من أزْمتها التاريخية إلا إذا أدركت كيف دخلت إليها. والرجوع بالاسترشاد بالهدى المحمدي.

لا أحد يطرب بالحديث عن الصراع والتكفير بل الاقتتال الذي نشب بين الرعيل الأول من الصحابة وبعدها في امة المسلمين، ولا أحد يستمتع بكشف جراح الأمة، لكن الطبيب قد يوصي بـ(الكي) الدواء المُرِّ، وتلك أحيانا هي الطريقة الوحيدة لاستئصال الداء. فلابد من رفع هالات التقديس عن البشر لدراسة تاريخنا وفقهنا وعقائدنا دراسة موضوعية نقدية تحليلية وتنقية ما دخل فيه من شوائب لتستر على الظالمين او لتلبية اطماع السلاطين.

أن الخلافات السياسية التي ثارت بين الصحابة ألقت بظلالها على جميع مراحل التاريخ الإسلامي، بل صاغت الحضارة الإسلامية وطبعتها بطابع خاص منذ القرن الأول الهجري حتى اليوم.

أن فهم تلك المرحلة التاريخية الحساسة عبر دراستها دراسة استقصائية تقويمية هو الذي يمكن من تجاوز مضاعفاتها التي لا تزال تتحكم في فكر وواقع الأمة اليوم. ­

أن كثيرين ممن تصدوا لدراسة تلك الفترة لم يسلكوا منهج عدل وسط يجمع بين قدسية المبادئ وخصوصيات البشر. بل تحكمت فيهم ردود الأفعال، فوقعوا في الغلو فهذا واضح وضوح الشمس، وهو غلو خفي دقيق، لأنه صدر باسم الدفاع عن الصحابة الكرام ولكن ولو على حساب الرسالة !

هنا يجب ان لا نلغي عقولنا حيث إن الصلة بين التأصيل الشرعي والوعي التاريخي أوثق مما يتصور كثيرون، فكل إنسان يحمل صورة ذهنية يسترشد بها في حياته، في ثلاثة ابعاد: الاول: مثَل أعلى في صورة مبادئ مجردة يطمح إلى الالتزام بها والنسج على منوالها. ثانيا: مثال في صورة أشخاص استطاعوا الاقتراب من تلك المبادئ، يطمح إلى الاقتداء بهم. ثالثا: ووسائل أفلح أولئك الأشخاص في إعمالها بنجاح في خدمة المثَل، يميل إلى اعتمادها.

ولم يعرف التاريخ البشري - ولن يعرف - تحول المثَل إلى مثال بشكل مطلق، لأن ذلك في غير مستطاع البشر. وحتى حين يوجد الأنبياء - وهم قمة الكمال البشري فإن حدود الزمان والمكان لا تسمح لهم بتحويل المثل إلى مثال في مجتمعاتهم، والارتفاع بمستوى التدين إلى مستوى الدين بشكل مطلق، لأن الدين هداية إلهية كاملة. ولعل في وفاة النبي(ص) وهو يتطلع إلى إقامة البيت على قواعد إبراهيم نموذج لذلك. أما غير الأنبياء فإن أخطاءهم وذنوبهم تزيد الفجوة بين الدين والتدين اتساعا، إذ هم غير معصومين لكن ليس كل الناس يملكون مستوى من التجريد يمكنهم من التفريق بين المبدأ وحامله، وبين المبدأ ووسائل التعبير عنه زمنيا.

وهنا يدخل داء (التجسيد): فتصبح المبادئ مجسَّدة في أشخاص مهما يكونوا عظماء فهم غير معصومين، وفي وسائل مهما تكن ناجحة أيام التأسيس فهي محدودة بزمانها ومكانها ويتولد عن داء التجسيد داءان: الجبرية والجمود. أما الجبرية فهي إيمان بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، ونظرٌ إلى أحداث الماضي على أنها ضربة لازب لم يكن منها بد، بما يترتب على ذلك من الخضوع لامتدادات الماضي في الحاضر، وسد لأبواب الطموح إلى الاستدراك والتصحيح. وأما الجمود فهو تبلد وانكفاء على وسائل نجحت في الماضي، لكنها لم تعد مناسبة في الحاضر، ولا مجدية في المستقبل، مما يؤدي إلى تخلف المبادئ عن الحياة.

أما العلاج فهو الوعي التاريخي الذي يُدخل فكرة الزمن في دراسة المبادئ، فيتضح التمايز بين المثَل والمثال: بين المبدأ وحامله، وبين المبدأ ووسائل خدمته، فتنفتح أبواب التقييم الصحيح للماضي، المرشد إلى سلامة البناء في المستقبل مثلا - لن يكون كافيا، إذا – وهكذا فإن التأصيل لمبادئ الإسلام في السياسة والحكم ورد في صيغة حديث مجرد عن الشورى والبيعة والعدل... الخ دون تحليل تاريخي لمراحل المد والجزر والاقتراب والابتعاد من هذه المبادئ في تاريخ الأمة، وخصوصا في مرحلة التأسيس التي يتخذها الجميع أصلا ومرجعا.

 ومهما يرهق الباحث نفسه في تأصيل العدل في الحكم، فسيجد من المصابين بداء التجسيد مَن يحتج عليه قولا أو فعلا بعمل بعض الأكابر الذين آثروا أقاربهم بالولايات والأموال. ومهما يرهقْ نفسه في الحديث عن حق الأمة في اختيار قادتها، فسيجد من يحاججه قولا أو فعلا بعمل بعض الأكابر الذين ورَّثوا أبناءهم السلطة.

وليس من حل لهذه الأزمة الفكرية والعملية سوى التقيد بوصية النبي (ص) لأبي ذر (قول الحق وإن كان مرا) اي لا تخشى الفتنة، وتسمية الأخطاء بأسمائها دون مواربة، وخصوصا أخطاء الأكابر الذين هم محل القدوة والأسوة من أجيال الأمة وسنته(ص): (اذا خشيت الامة ان تقول للظالم ياظالم فقد تودع منها) و(افضل الجهاد كلمة حق عند امام جائر).

لقد أفضى أولئك السلف إلى ما قدموا من عمل، والى الله يرجعون ان احسنوا ام اخطأوا. أما المبادئ فهي حية خالدة، فالحفاظ عليها واجب، ووضوحها في أذهان الناس ضرورة. وحاجة الناس إلى المثَل الأعلى أكبر من حاجتهم إلى أي مثال بشري مهما سما، بعد أن أغناهم الله بالأنبياء المعصومين عمن سواهم.

لقد درج كثير من علماء المسلمين في الماضي والحاضر على الكتابة عن حياة الصحابة وتاريخ السلف بمنهج سرد المناقب والفضائل فقط، وتبرير كل ما اجترحوه والدفاع عنهم دفاع اعمى مع القادحين في سيرة المخطئين، والذين لم يعترفوا لهم بفضل السبق. ورغم عدم فائدة هذا المنهج في بيان الحق والبحث السليم لإثارة الهمم الراكدة، إلا أنه يشتمل على جوانب قصور منهجية، أهمها أنه يسلخ حياة الصحابة والسلف الأول من طبيعتها البشرية: طبيعة الصراع بين المثَل والواقع، والمعاناة النفسية في سبيل الارتفاع إلى مستوى المبدأ، ومظاهر السقوط والنهوض، والذنب والتوبة، والغفلة والإنابة.. وهذا هو جوهر التجربة المؤمنة في كل عصر، فإذا زور التاريخ استحال من تاريخ حي نابض، إلى تاريخ جامد مقدس، يثير الحماس المصطنع لكنه لا يمنح الخبرة، ولا يفجر الحركية ولا يقدم العبرة، انه يُظهر تقصير الخلف ويُقْنطهم من الاقتداء بالسلف.

ولم يكن هذا نهج القرآن الكريم في عرض قصص الأولين، وحياة السالفين. فحتى حينما تحدث القرآن الكريم عن الأنبياء المعصومين بالوحي، قدم الصورة مكتملة، متضمنة نقاط القوة والضعف، وان في اهلهم من هو عمل غير صالح، حتى يستوعب المتدبر العبرة، ويظل التاريخ تاريخ بشر، لا تاريخ ملائكة جبلوا على الطاعة دون جهد أو معاناة. وتبقى مأزومية تراثية ثقافة الفكر السلفي اساسا لانحطاط الامة وتقهقرها الحضاري مهما تبرقع بلبوس الدين..!!

hilal. fakhreddin@gmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 27/شباط/2014 - 26/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م