من ينظر بعين فاحصة ودقيقة لما يجري في العراق من احداث رافقت
العمليات العسكرية التي اطلقها الجيش العراقي في الانبار، سوف يكتشف
للوهلة الاولى ان هذه الحرب لم تكن عسكرية تتحكم فيها اصوات البنادق
ودوي المدافع وقصف الطائرات! بل كانت هنالك معارك اخرى رافقت هذه الحرب
ولم تخل منها في اي لحظة من لحظاتها.
ففي الوقت الذي تشتعل فيه المعركة في صحراء الانبار ويسطر فيها
ابناء القوات المسلحة اروع الملاحم البطولية ضد المجاميع التي تقاتل
نيابة عن دولة اقليمية ومشاريع شيطانية خبيثة كبرى، تجد، وعلى نحو جلي
لايمكن التغاضي عنه، ان هنالك معارك كلامية " ان صح التعبير" تجري في
العالم الرقمي الافتراضي متمثلا فيما يكتبه المواطنون من تعليقات
وتغريدات في مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك أو تويتر) للتعبير عن
وجهة نظرهم حول مايجري من مواجهات مسلحة في الانبار.
هذه المعارك الكلامية كشفت عن قضية مهمة تتعلق بمشكلة يحاول الكثير
تجنب الخوض فيها بل وحتى التعليق عليها خوفا من اتهامه بانه يسيء
لمكونات الشعب العراقي المختلفة التي لا أراها مقدسة وفوق النقد أو
لايمكن اخضاعها للمساءلة باي حال من الاحوال، فنحن شعب كغيرنا من شعوب
الارض لدينا خصال ايجابية ومحمودة من جهة ولا نخلو من سمات سلبية وسيئة
من جهة ثانية.
اذ وجدنا، ومن خلال تتبع دقيق لما ينشر من قبل المعلقين في هذه
المواقع، ان النفس الطائفي لم يغب عن تفكير العديد من ابناء الشعب
العراقي ان لم نقل اصبح محور تفكيرهم ومرتكز تعليقاتهم واساس لغتهم،
حيث ان العديد منهم تنفّس في كتاباته، هذه الايام، بصورة طائفية من غير
ادنى خجل ولا وازع من ضمير أخلاقي يردعه عن المضي في مثل هذا التفكير
البدائي المتطرف والمنحرف.
ومثلما عرّينا الكتل السياسية بتاريخ السابع من نيسان عام 2008 على
خلفية مواقفها السياسية المتناقضة من العمليات العسكرية التي قامت بها
في ذلك الوقت القوات المسلحة ضد المليشيات الشيعية الخارجة عن القانون
في البصرة تحت مسمى (صولة الفرسان) في مقالة " العري السياسي في ازمة
البصرة" فاننا اليوم نقوم، وبنفس المنهج الفكري، وبدرجة لاتقل في مستوى
النقد، بتعرية المجتمع العراقي، او على نحو الدقة، بعض من فئاته
ومكوناته التي مارست، وبالتوازي مع العملية العسكرية ضد داعش في
الانبار، نوعا جديدا من الطائفية اطلق عليه تعبير" الطائفية الرقمية".
الطائفية الرقمية التي سنخصص لها مقالنا اللاحق تتجسد في الاصداء
التي احدثتها المعركة الحالية في الانبار على الارضية الافتراضية
لوسائل التواصل الاجتماعي، اذ رأينا الكثير من التعليقات حول ماينشر من
صور واخبار حول المعارك الجارية هناك، والتي تتضمن في اغلبها شتائما
وسبابا والفاظا وعبارات غير لائقة لايتحدث بها الا اهل الشارع ومن
لايمتلك اي حظ من الثقافة او الاخلاق.
هذا التعليقات التي يطرحها شباب وبنات من المفترض انهم في منأئ عن
الطائفية وادرانها تمثل صورة ونموذج واضح لايقبل الشك لجزء كبير من هذا
المجتمع اصبح يسير على هذا النحو في تفكيره، وهي تعليقات يتخذها هذا
الشاب او تلك الشابة تحت اقنعة واسماء مستعارة غير حقيقية خوفا من
ابداء تلك الاراء واظهارها او حياءا من تلك المواقف الطائفية السخيفة
التي ما انبنى مجتمع حلت بها ولا تطورت دولة سار ابنائها على طريقه.
فالشباب الذين يعلقون بصورة طائفية على المنشورات المتعلقة بالمعركة
في الانبار يخضعون للعقل الجمعي السائر بدوافع طائفية ويتصرفون كجمهور
نفسي بحسب اصطلاحات عالم الاجتماع الفرنسي الشهير غوستاف لوبون،
ويتحولون من فرد مستقل الى جمهور نفسي يتحكم به عقل جمعي اخر يقع تحت
تخدير افكاره التي في اغلبها تكون متطرفة وغير عقلانية وتخلو من اي
منطق انساني سليم.
التعليقات الطائفية الذي قرأناها في تلك المواقع عرّت فئة كبيرة من
هذا المجتمع وفضحت تفكيرهم وكشفتهم خصوصا وهم يزعمون ان موقفهم من
الحكومة ومن الكثير من القضايا السياسية مبني على اساس موضوعي يتعلق
بتصرف الاخيرة وسلوكياتها في حين ان التجربة وردات الفعل التي قاموا
بهم، ومن خلال تعليقاتهم في الفيسوبك وتويتر، اثبت ان الامر يسير على
نحو مغاير.
فالدافع الطائفي والعوامل المرتبطة به استقطابا والخلفيات التي تقف
ورائه تجاذبا هو المحرك الاساسي والعامل الجوهري في جل السلوكيات
اللفظية وغير اللفظية التي قام بها بها الكثير من افراد المجتمع تعليقا
على المعارك العسكرية في الانبار ضد الارهاب سواء بوعي وشعور منهم
بسلوكهم او بدون اعتراف منهم بذلك.
[email protected] |