الصدر يعتزل، والأحزاب تتكاثر أميبيّا

نزار حيدر

 

 اعتقد بان توقيت السيد الصدر لقراره لم يكن دقيقا ولا موفقا، فالتيار الصدري تيار عريق وواسع جدا في الساحة، وقد ترك، ولا يزال، بصماته الواضحة في مجريات الحياة العامة وفي العملية السياسية منذ سقوط الصنم ولحد الان، ولذلك فعندما يغيب عنه زعيمه وبقرار مفاجئ، فانه سيترك أثرا سلبيا ان لم يكن سيئا على التيار بشكل خاص وعلى العملية السياسية بشكل عام، فليس من الواضح، بعد الان، اين سيتجه التيار وماذا سيتبنى من سياسات وبرامج، خاصة ونحن نعرف جيدا بان للتيار ضابط واحد فقط لا غير هو شخصية الصدر فحسب، فكيف يمكن ضبطه اذا غاب صمام الأمان الوحيد عنه؟.

 كان يمكن للصدر ان يتّخذ قراره هذا بعد ان ينجز ويحقق الخطوات التالية التي لا يمكن لغيره تحقيقها، وهي:

 اولا: تطهير العناصر الفاسدة في التيار، والتي أشار اليها الصدر في بيانه وخطابه، خاصة وان بعضها تضخم حجمه بشكل لا يطاق، لا يمكن لأحد ردعها وإيقافها عند حدها غير الصدر شخصيا.

 ولو فعل ذلك لكان قد تحمل مسؤوليته في التصدي للفساد الذي أشار اليه في خطابه، اذ لا يمكنه التبرؤ من ظاهرة الفساد بعد ما يقارب من (١١) عام من التصدي السياسي وبكل قوة، بالاعتزال فقط من دون تحمل المسؤولية المباشرة، فعليا وعمليا.

 ان ترك التيار وشأنه في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها العراق، خاصة ونحن مقبلون على انتخابات نيابية مصيرية بكل المقاييس، تركه عرضة لنهش الفاسدين والمتاجرين والمتصيدين في الماء العكر، يعدّ، برأيي، قرارا يجانب الإنصاف بكل الاحول.

 وتتضاعف مسؤولية الصدر بهذا الصدد، اذا اخذنا بنظر الاعتبار حديثه واشادته بمنهجية الصدرين الشهيدين، فهما قدما حياتهما من اجل الإصلاح ولم يتراجعا عن موقفهما بالرغم من كل التحديات والتهديدات والضغوطات، حتى أستشهدا.

 ثانيا: تسمية المتاجرين بدماء الصدريين الشهيدين، وكذلك المتاجرين بسمعة التشيع وبتاريخ وسيرة امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام من الذين يتلبّسون عنوانه وربما زيّه، والذين مر عليهم الصدر مرور الكرام.

 ثالثا: تحويل التيار الى حزب سياسي واضح المعالم والأهداف، ان على صعيد الهيكلية القيادية او البرامج.

 رابعا: الانسحاب تدريجيا من زعامة التيار، حتى لا يترك أثرا سلبيا بإعلانه المفاجئة للقرار، والذي تبيّن بأنّ اعلى القيادات في التيار لم تكن على علم به، وهي، ربما سمعته او قرأته في الاعلام كأي متابع آخر، وفوجئت به كما فوجئ به اي مواطن آخر.

 خامسا: توقيت الإعلان ليتناسب مع واقع افضل، سواء فيما يخص العملية السياسية برمتها، او على صعيد الأمن والحرب على الارهاب.

 أخشى ان يصاب التيار بالإحباط، وهو يفاجأ بقرار زعيمه، خاصة وان هناك قواعد كثيرة ربما لم تفهم مغزى الإعلان على حقيقته بسبب عدم إسعاف الوقت لقيادات وكوادر التيار لشرح الموقف لها، وإذا حصل وأصيب التيار بالإحباط، وتاليا بالانهيار، فستضيع جهود الصدرين الشهيدين بدلا من ان يصونها قرار الصدر القاضي بالاعتزال.

 نقطة مهمة جدا يجب ان نمر عليها، وهي:

اذا قصد السيد مقتدى الصدر بقرار الاعتزال التأسيس لفصل الديني عن السياسي، فانه، وللتاريخ وللإنصاف، قد أصاب الهدف وبشكل دقيق جدا، اتمنى ان تحذو بقية القيادات الدينية المتصدية للسياسي حذوه، فترك الديني للسياسي امر جيد جدا في بلد كالعراق المتعدد والمتنوع في كل شيء، وبهذه المناسبة، يلزمنا جميعا ان نستذكر الرؤية السليمة والشجاعة التي كانت قد أعلنت عنها المرجعية العليا، عندما حرّمت على وكلائها التعاطي بالسياسي.

 وكلي أمل في ان تنسحب هذه الرؤية على السياسيين كذلك، فيبتعدوا عن الديني والمذهبي، لان ذلك سبب من أسباب التحريض على التحشيد الطائفي الذي يضر كثيرا بالعملية السياسية، فماذا يعني، مثلا، ان يرعى زعيم كتلة نيابية موكبا حسينيا ايام الاربعين؟.

 قد يفسر متابع قرار الصدر بانه أراد ان يفسح المجال امام التيار، ويفتح أمامه الباب على مصراعيها ليبدأ حوارا جديا مع الولايات المتحدة الأميركية، كونها اللاعب الرئيسي الاول او الثاني، ربما، في الملف العراقي، باعتباره يطمح الى قيادة الحكومة في المرحلة القادمة، لتوقع المراقبين له بحصد نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان الجديد، الحوار الذي لا يرغب الصدر في ان يكون شاهدا عليه.

 شخصيا، لم تترشح عندي، لحد الان على الأقل، أية معلومات دقيقة وموثقة بهذا الصدد، من مصادر يمكنني الاعتماد عليها.

ظاهرة التكاثر الأميبي للأحزاب في العراق

 هناك أسباب عديدة لهذه الظاهرة، وقبل ان أشير اليها، اود ان أعرج على الملاحظات المهمة التالية:

 اولا: ليس في العراق، منذ التأسيس عام ١٩٢١ ولحد الان، عمل حزبي بالمعنى المتعارف عليه في العالم، وإنما فيه ظاهرة التيارات، وهي في حقيقتها ثلاثة تيارات، القومي واليساري والديني، فترى الناس تتقلب في هذه التيارات حسب الظروف السياسية، وقاعدة الغلبة، فترى، مثلا، عندما يشتد عود التيار اليساري في الشارع، يجرف حتى المعمم الى صفوفه، وعندما يشتد عود التيار القومي يجرف معه حتى اليساري، واليوم عندما اشتد عود التيار الديني جرف معه الاثنان، واقصد بهما اليساري والقومي، بل وربما حتى غير الملتزم دينيا، ولذلك ليسمح لي العراقيون ان أقول هنا حقيقة في غاية الأهمية، وهي ان الشارع العراقي، باستثناء ما خرج بدليل، تنطبق عليه المقولة (على حس الطبل خفّن يا رجليّة) و(الناس على دين ملوكهم) وكذلك مقولة ان (الناس مع القوي) ولذلك رأينا كيف ان القيادي في التيار اليساري ينقلب فجأة ليكون في اليوم الثاني قياديا في التيار القومي او الأخير في التيار الديني، وهكذا، ما يؤكد حقيقة انعدام أصول العمل الحزبي في العراق وغياب الحياة الحزبية المتعارف عليها في البلاد الاخرى.

 ثانيا: لقد دمّر الطاغية الذليل صدام حسين ما كان موجودا من الحياة الحزبية تدميرا كاملا، من خلال تبنيه لنظرية الحزب القائد وإلغاء بقية الأحزاب، كونه نظاما شموليا، بل محاربتها والقضاء عليها بحملات الإعدام لقادتها وكوادرها، وبالمطاردات التي أجبرت قادة وكوادر الأحزاب والحركات على هجرة ارض الوطن واللجوء الى مختلف دول العالم، الامر الذي غيّر الكثير من معالم هذه الأحزاب، كما غير من هيكلياتها وقناعاتها وبرامجها وغير ذلك.

 انه عمل على تدمير أصول العمل الحزبي من القواعد، فخرَّ عليها السقف.

 وما ساعد الطاغية على تحقيق هدفه في تدمير المتبقي من الأحزاب، هو ظاهرة الخداع التي ابتليت بها بعض الأحزاب السياسية، عندما وافقت، في فترات زمنية متفاوتة، على التحالف او الحوار معه، خاصة الكردية واليسارية، ما مكّنه من كشف هيكلياتها وتنظيماتها ليسهل عليه تدميرها، او على الأقل ضربها ببعضها وتمزيقها، من جانب، واستفراده بالمتبقي من الأحزاب من جانب اخر.

 ثالثا: ولكون هذه التيارات الثلاثة تنطلق من جوهر واحد، فهي تيارات أيديولوجية بامتياز، ولذلك مرت بنفس المشاكل واشتركت بنفس الأمراض، ولعل من أبرزها ظاهرة الانشقاقات والتكاثر الأميبي، وظاهرة الاستبداد والديكتاتورية.

 كما انها تشترك، بالمجمل، في نوعية التشكيلات والمسميات الحزبية، لأنها أخذت، بشكل عام، بالتجربة الشرقية للأحزاب، ولم تأخذ بالتجربة الغربية.

 نعود الى الحديث عن الظاهرة الأميبية في العمل الحزبي في العراق، فبرأيي ان هناك عدة أسباب لعل من أهمها:

 الف؛ انها احزاب غير وطنية، والمقصود بذلك، انها لا تعتمد المواطنة كمعيار للانتماء الى صفوفها، فهي اما احزاب دينية او مذهبية او إثنية، ما يغلق حرية الاختيار امام المواطن، فهو، اذا ما أراد ان ينتمي الى حزب ما، فهو مُجبر على ان يختار الحزب الذي يتخذ من دينه او طائفته او قوميته معيارا للانتماء في صفوفه، اي انه مجبر على ان يصمم خياراته على اي قاعدة باستثناء قاعدة المواطنة.

 حتى الأحزاب اليسارية، الشيوعي مثلا، تحكمت فيه هذه الظاهرة، كما يشير الى وجود الطائفية والعنصرية في الحزب الشيوعي، مثلا، اكثر من واحد من قادته في مذكراتهم المدونة والمنشورة، فضلا عن تشكل عدد من احزاب اليسار على أساس القومية، كما هو الحال في الحزب الشيوعي الكردستاني مثلا.

 باء؛ انها احزاب غير ديمقراطية، ولذلك فان كل شيء عندها بمثابة التراث، فنظامها الداخلي تاريخي وهو تراث يجب المحافظة عليه، وقياداتها تاريخية وهي تراث يجب المحافظة عليه، ولهذا السبب فهي تعاني من عجز مستفحل في تطوير المناهج والأساليب والأدوات، الا ما تفرضه عليها الظروف فقط، فهي لا تمتلك القدرة على التخطيط المستقبلي بما يمكّنها من استيعاب التطوير بشكل انسيابي ومن دون عمليات جراحية او ولادات قيصرية، ما يعرضها الى مشاكل الانشقاقات والأزمات والتمزقات الداخلية.

 وإذا أضفنا الى هذه الحقيقة، ظاهرة اعتمادها على الرمزية بشكل مرعب، من خلال تكريس ظاهرة عبادة الزعيم او القائد، فسنتصور حجم الخسائر التي يمنى بها الحزب حال غياب الرمز، ولعل في تجربة الاتحاد الوطني الكردستاني، التي يمر بها منذ اكثر من خمس سنوات ولحد الان خير نموذج واضح على هذه الحقائق.

 ان ظاهرة الرمزية أحد أخطر الأمراض التي مني بها المجتمع العراقي، خاصة منذ سقوط الصنم ولحد الان، لما أتاحه له الوضع الجديد من حرية في الاختيار لدرجة انه تحول الى ظاهرة واضحة لقول الله عز وجل {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.

 جيم؛ انها احزاب تحكمها العقلية العشائرية، ان بالفعل او بالقوة، بالفعل عندما تتداول أسرة او عشيرة قيادة الحزب جيلا بعد جيل، اما بالقوة فعندما يتهيّأ الحزب الى التحول لهذه الظاهرة في اقرب فرصة ممكنة تهيؤها له ظروف السلطة مثلا، فضلا عن ان العقلية العشائرية هي الظاهرة التي تتحكم في طريقة ادارة هذه الأحزاب وأسلوب القيادة وفي التحالفات وغير ذلك، والتي انتقلت الى الدولة بكل مؤسساتها.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/شباط/2014 - 21/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م