ألواح مكتوبة.. صرخة أولى، صرخة اخيرة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ما يؤسس وجودك هو أيضا ما يقود الى فنائك.. صرختان اثنتان فقط في كل حياتك هما الحقيقة وما بينهما محض اوهام واكاذيب.. الصرخة الأول عند الولادة، صرخة حياة تخرج للتو الى النور، صرخة احتجاج بوجه الضوء الباهر، او ربما صرخة فرح عارم بالتحرر، او ربما صرخة انتصار، كل ما يؤسس للحظة قادمة، هو دلالة بشكل ما لتلك الصرخة.

كل ما يدفعك للامام هو تعبير عن رجع صدى لصرخة الحياة والضوء الباهر والفرح العارم والانتصار، وكل ما يجعلك تسقط او تتراجع او تنكسر، هو رجع صدى لصرخة قادمة، لا تسمعها، لكن خطاك تقود اليها دائما..

الصرخة الأولى لك وحدك، الصرخة الأخيرة لغيرك..

القبض على الصرخة الأولى، يقوم به الاخرون نيابة عنك. ورقة بيضاء تسجل عليها المعلومات المطلوبة..

ساعة الولادة، ومكانها، واسمك الذي يلازمك كظلك، واسم ابيك، والذي قد يكون ظالما او رحيما او حنونا او قاسيا، واسم امك، والتي تكون دائما في ذروة من حزن دفين لا تستطيع ان تجد له تفسيرا، رغم ما يغلفه من فرح دامع..

انها في لحظة منحها الحياة لك، تدرب حنجرتها على صرخات تتردد في كل مسامة من جسدها وروحها وقلبها ومشاعرها.. ودائما ماتتخوف ان تكون الصرخة الأخيرة لها وحدها..

هل شاهدتم حزن الام حين تفقد احد أبنائها كيف يكون؟.

وهل شاهدتم انكسارها المتجدد دوما حين تقف امام نقش استعار قليلا من حياتك على الورقة البيضاء، واصبح الان على قطعة من رخام تؤرخ لسيرة راحلة، بين صرختين، الصرخة الأولى ولد في...... والصرخة الثانية توفاه الاجل في.............

يالقلب تلك الام، كم ودت لحظتها لو انها حبستك في سجنها ولم تسمع صرخة الحياة والضوء الباهر والفرح العارم والانتصار.. حياة هو الموت لها، والضوء الباهر اعمى عينيها، وفرحك العارم حزن مفجع في قلبها، وانتصارك هو الهزيمة المرة لها.

ابتدعت (والبدعة ضلالة) في المؤسسة التي اعمل فيها، تقليدا جديدا لتوريط الاخرين بكتابة تاريخ (اللحظة).

سبورة صغيرة، وعدد من الأقلام، وممحاة، وجدار نضعه خلفنا حين نعمل، ويستقبلنا حين نغادر (اللحظة).

امامنا الان لحظتان، يختلفان اختلافا كبيرا في ما بينهما..

الأولى، تقبض على ذروة النشاط عند قدومنا، وعلى قلقنا، وهمومنا وتؤرخ له، والثانية ترافق انهاكنا، وتعبنا، ورحيل ساعاتنا، التي تراكم سنوات مضافة من اعمارنا..

اليس ثمة تشابه بين اللحظة والصرخة؟.

أو الا تشبه تلك السبورة وهي تكتب تاريخ (اللحظة) اللوح الرخامي الذي ينتصب فوق قبورنا بعد الصرخة الأخيرة؟.

بلى، هي كذلك..

ما اكتبه عليها يقرأه –يقرأني الاخرون، وما يكتبه الاخرون في الحالة الثانية، يقرؤوه هم وحدهم، وغيرها من عيون تمر بخطواتها قريبا من سجني المظلم.. خطوات سريعة تريد أن تغادر وتفر ولو مؤقتا مما هي متيقنة من وصوله اليها..

كم هي مساحة الأوهام التي تسكننا ونعيشها مابين اللحظة – الصرخة، وبين السبورة – اللوح؟.

انها بحجم حياتنا، طالت أو قصرت، لا فرق بين بؤس أو نعيم، حزن وفرح، محبة وكراهية.

لا خلود للحظة، الا بمقدار زمنها بعد تأريخها، ثم محو وتأريخ جديد.

ولا خلود للصرخة الا بمقدار بقائها صوتا يتردد في قلوب الاخرين..

لإبقاء للسبورة (الحياة) الا بمقدار ما تبقى عليها خطواتنا واحرفنا.

ولإبقاء للوح الرخامي، الا بمقدار بقاء الصرخة في قلوب من يحبون، وهم يتناقصون باستمرار، تتبعهم صرخات أخرى..

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/شباط/2014 - 19/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م