مدرسة المجدد الشيرازي.. نقطة مضيئة في تاريخ سامراء

محمد الصفار

 

شبكة النبأ: عاشت مدينة سامراء عصراً ذهبياً أثناء وجود المجدد السيد محمد حسن الشيرازي (1230 ـــــ 1312)ه الذي يعد من كبار مراجع التقليد وعظام علماء الإمامية وأساتذة الفقه والأصول والذي وصلت إليه رئاسة المذهب الجعفري في عصره.

بذل المجدد الشيرازي منذ انتقاله الى سامراء جهوداً كبيرة لإيجاد مؤسسة دينية وعلمية عظمى في هذه المدينة خلال سنوات تواجده فيها وكان للدور العظيم الذي قام به في نهضته العلمية وتشييد مدرسته الدينية أثر كبير في استعادة سامراء مكانتها العلمية والثقافية فاستقطبت الكثير من العلماء والطلاب الذين هاجروا من البلاد الإسلامية كافة ليحضروا دروسه وقد تخرج على يد المجدد الشيرازي الكثير من أجلاء العلماء وأفاضل الفقهاء وأهل التحقيق البالغين مرتبة الاجتهاد. ومن أبرز هؤلاء العلماء الأعلام الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي الحائري (قائد ثورة العشرين) الذي يعد من كبار العلماء وأعاظم المجتهدين والسيد محمد الفشكاري الأصفهاني والشيخ أغا بزرك الطهراني وغيرهم.

إزدهرت سامراء في عصر المجدد الشيرازي الذي نقل إليها الفكر الشيعي يقول محمد حسين المظفر في كتابه (تاريخ الشيعة) ص (103): (ولما قطن فيها ــــ أي سامراء ــــ زعيم أهل الدين في عصره السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي استعاد التشيع فيها نشاطه وهاجر إليها كثير من أبناء العلم وأرباب المكاسب)، وقد أثار ظهور التشيع المفاجئ في سامراء حفيظة العثمانيين الذين سعوا الى الحد من نشاطه يقول الدكتور علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج3 ص97): (وقد أثار انتقال الإمام الشيرازي إليها ــــ أي سامراء ــــ قلق العثمانيين بعد أن فاجأهم الحضور الشيعي فيها بشكل سريع من انتقال الفكر الشيعي إليها بعد قيام الإمام الشيرازي بإعلان فتواه في تحريم (التنباك) خلال انتفاضة التبغ في إيران بين عامي (1891ــــــ 1892)م مما دفع بعض المسؤولين العثمانيين في العراق الى توجيه نداءات متكررة الى اسطنبول للوقوف أمام انتشار التشيع في العراق وكان رد فعل اسطنبول هو إقامة مدرستين في سامراء سلمت إدارتها الى شيخ من مشايخ المتصوفة).

لكن المدرسة بقيت تواصل نشاطاتها ولم تخل سامراء في عهد المجدد الشيرازي من الوافدين لطلب العلم من الكثير من البلدان وحتى بعد وفاته (رحمه الله) فقد حافظ تلاميذه على مدرسة أستاذهم وأبقوها متفاعلة ومتواصلة ومستمرة وهو ما كان يحرص عليه الإمام الشيرازي وذلك وفاء منهم لأستاذهم الراحل وبقي تلميذه من بعده الميرزا محمد تقي الشيرازي الذي كان يعد من أبرز تلاميذه لأكثر من عقد ونصف من الزمن مواصلاً الدرس والبحث ومهمة الإفتاء وأصبح بعده مدرساً لطلابه حتى احتلال سامراء من قبل القوات البريطانية عام (1917) وانتقال الميرزا محمد تقي الشيرازي الى كربلاء.

عرف الإمام المجدد الشيرازي بمواقفه العظيمة التي وقفها في سبيل إصلاح واقع المسلمين وبذل جهوداً من أجل وحدتهم والتصدي لأعدائهم ولم تقتصر مواقفه على الساحة الدينية والفقهية بل تعدتها الى الساحتين السياسية والاجتماعية ومن أبرز هذه المواقف موقفه من معاهدة بيع امتياز انتاج التبغ في إيران التي ذاع صيتها في البلدان وكثر فيها الحديث وقد ذكر هذه المسألة مفصلة الدكتور المرحوم حسين علي محفوظ الذي عربها عن نسخة مخطوطة باللغة الفارسية عند الميرزا محمد الطهراني بسامراء ودونها كاملة وأسماها: (مآثر الكبراء في تاريخ سامراء) وهي بحجم كتاب نورد منه ما يفي بالغرض:

يتحدث الكتاب في البداية عن استيلاء دول الأجانب على بلاد إيران وسلبها خيراتها حتى يصل الى زيارة السلطان ناصر الدين شاه الى لندن في سنة (1306)ه وهي بداية القصة حيث استقبلوه استقبالاً عظيماً وهو غافل عن نواياهم ثم عرضوا عليه شراء امتياز التبغ الإيراني لمدة خمسين سنة وشرطوا عليه أحد عشر شرطاً تضمنت الكثير من التعسف والظلم بحق الشعب الإيراني وانتشر الخبر في إيران وكثرت الشكاوى فلاذوا بالإمام الشيرازي وكان ممن كتب الى الإمام يستجير به ويسأله التدخل السيد جمال الدين الأفغاني.

وكثرت الكتب والشكاوى لدى الإمام من العلماء والأشراف والتجار فكتب المجدد الشيرازي الى السلطان كتاباً مفصلاً أوضح فيه ما يجب ايضاحه فأرسل السلطان جواب كتابه أنه لا يجوز للسلطان التراجع عن كلمته وأوصى القنصل حامل الرسالة أن يبذل جهده لإرضاء الإمام لكن الإمام لم يقبل بهذه الأعذار الواهية وأجاب عنها بكتاب ثانٍ أدلى فيه ببراهين قاطعة على الأخطاء الجسيمة في هذه المعاملة الفاسدة كما بين إصراره على فسخ هذه المعاهدة الظالمة بقوله: (إن عجزت الدولة عن الجواب فلسنا بعاجزين وإن لم تقدر أن تجيب الخصم وتطالب بحقوق الملة فخل بيننا وبينه).

ولما لم يعمل السلطان شيئاً أصدر الإمام فتواه التي دوّى صداها في العالم الإسلامي بتحريم التنباك والتتن واضطربت الحكومة الإيرانية أمام هذه الفتوى التي قصمت ظهور أصحاب الإمتياز فقفلوا راجعين الى بلادهم بخفي حنين.

كان للإمام الشيرازي منزلة كبيرة بين علماء عصره وكان على منزلته الكبيرة متواضعاً يكرم العلماء والأدباء ونورد قصة واحدة تعطينا صورة عن صفاته السامية وأخلاقه الكريمة ونفسيته العظيمة فقد نقل العلامة الشيخ محمد علي الأردبادي عن الحجة السيد ميرزا علي أغا نجل المجدد الشيرازي قال: كان الإمام المجدد الشيرازي يستدعي الشاعر السيد حيدر الحلي الى سامراء ليستمع الى شعره وعندما هنّى السيد حيدر والدي بقصيدته الهمزية في ذكرى مبعث النبي (ص) رأى أن يكرم الشاعر بعشرين ليرة فاستشار ابن عمه العلامة السيد اسماعيل الشيرازي في ذلك فقال السيد اسماعيل: (ما قولك في دعبل والكميت ومنزلتهما عند الإمام الصادق والإمام الرضا (عليهما السلام) فهل هما أفضل أم السيد حيدر وهو ابن رسول الله(ص)؟) فقال الإمام الشيرازي: إنه أفضل منهما فقال له السيد اسماعيل الشيرازي: إذا يجب أن تكرمه بأقصى ما تشعر من أنواع التكريم فأخذ الإمام الشيرازي معه مائة ليرة وذهب لزيارة السيد حيدر وعندما دخل عليه تناول يد الشاعر فقبلها بعد امتناع شديد.

كتب عن الإمام الشيرازي العديد من الأعلام وترجمت سيرته المعطاء الكثير من كتب السير والتراجم فكتب عنه تلميذه الشيخ أغا بزرك الطهراني دراسة بعنوان: (هدية الرازي) ومما جاء في ترجمته ــــ قدس سره الشريف ـــــ : (السيد الميرزا محمد حسن بن السيد محمود بن محمد بن اسماعيل الحسيني الشيرازي انتهت اليه الزعامة الدينية في عصره وأذعنت له الملوك هيبة وإجلالاً وقدسته الملايين من المسلمين تقديساً صحيحاً ولد في شيراز سنة(1230)ه ونشأ بها على أبيه وهاجر الى أصفهان وعمره (12) سنة لإكمال دراسته فيها ثم هاجر الى النجف عام (1259)ه فاتصل بالإمام الشيخ مرتضى الأنصاري وقرب منه ونال مكانة سامية عنده وبرز بين أخدانه من أعلام الفقه فأصبح يشار بالبنان وعند وفاة استاذه الإمام رشح لمقام الرياسة ونظمت اليه الصفوف وتهافت الناس عليه من كل حدب وصوب ينهلون من منهله العذب ..)

مدح الإمام المجدد الكثير من الشعراء في عصره لما رأوه من مكانته العلمية وكان أبرز من مدحه السيد حيدر الحلي في الكثير من القصائد والمقطوعات نقتطف منها هذه الأبيات:

لقد أطلق الحسن المكرمات*****محياك وهو بها سافر

فأنت حديقة أنس به*****وأخلاقه روضك الناظر

عليم تربى بحجر الهدى*****ونسج التقى برده الطاهر

هو البحر لكن طما بالعلوم*****على انه بالندى زاخر

على جوده اختلف العالمون*****يبشر واردها الصادر

بحيث المنى ليس يشكو العقام*****أبوها ولا أمها عاقر

فتى ذكره طار في الصالحات*****وفي الخافقين بها طائر

لقد جل قدراً فلا ناظم*****ينال علاه ولا ناثر

وقال أيضا في مدحه (قدس سره الشريف) من قصيدة أخرى:

نشأت بسامراء أنمله*****ديماً تعم الأرض بالقطر

وكأنه فيها وصفوته*****أهل النهى والأوجه الغر

قمر توسط هالة فغدا*****فيها يحف بشهبها الزهر

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/شباط/2014 - 17/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م