النبأ في الجزء الثاني من حوار موسع مع رجل المسرح المغترب حازم كمال الدين

في تجربتنا ألغينا بوعي الحدود بين الفنان وغير الفنان

حاوره: ناظم السعود

 

* أسعى في عروضي لإلغاء الحدود الثقافية

* لم أتناول سوى ثيمة واحدة وهي تاريخ العذاب العراقي !

* عدت إلى العراق لأجل إنشاء مشروع مسرحي جديد

* المطلوب سياسة ثقافية بعيدة عن الكراهية والتكفير!

 

شبكة النبأ: في القسم الأول من هذا الحوار، الذي أجريناه مع المسرحي العراقي المغترب حازم كمال الدين، اظهر لنا وللقراء عموما حالة تشريحية للفن المسرحي ولبقية الفنون والإبداعات التي كانت سائدة في سبعينات القرن الماضي وكمية الجهد والمخاطر التي ينبغي الزج بها للذود عن اختياراته في مجال مدبّب كهذا وقد تؤدي به مغامرته الى الإعدام .. وهو ما حصل فعلا لحازم قبل ان يرمي بنفسه وينقذ موهبته خلف الحدود!.

 وفي القسم الثاني يتواصل الحوار مع رجل المسرح الذي قيل انه أقدم المخرجين العراقيين في أوربا ومدى التأثير الايجابي الذي أحدثه حازم كمال الدين في المسرح الأوربي منذ وصوله الى الوطن البديل (بلجيكا) أواخر العقد السبعيني وحتى اليوم، ولا ينسى هذا المبدع محطات أثيرة في المسرح العراقي والعربي فيتذكرها ويهضم أهم ما فيها بحثا عن المسرح الذي يريد:

المسرح والحدث الافتراضي

* قرأت أكثر من مرة انك قدمت (كجزء من تجريبياتك) عروضا تنتمي للمسرح الرقمي وانك استعنت لهذه التجربة بالفنان والأكاديمي العراقي محمد حسين حبيب ولكن المعلومات تضاربت حول حقيقة وريادة هذه التجربة هل لك ان تلقي ضوءا كاشفا لهذه التجربة وخلفياتها؟.

فيما تسميه المسرح الرقمي، لا أعرف شيئا عن ريادية حازم أو ريادية محمد إلا ما تحكيه الصحف. نحن نشتغل في حقلين مختلفين. د. محمد حسين حبيب يشتغل على الجانب النظري وأنا أشتغل في المجال التطبيقي. تجاربي في المسرح التفاعلي (أونلاين تياتر) تعود لفترة تتناغم مع ظهور الانترنت، لكن معالمها أصبح واضحة عام 2005 حين التقيت الفنان الهولندي بيتر فيرهايس وقدمنا عرض (مقهى بغداد.. مسرح عبر الانترنت). وهذا الفنان هو مؤسس مسرح الحرب وهو مسرح يعتمد الأونلاين للتواصل مع المشاهد ومع العارض. في تلك التجربة التقت اهتمامات الصديق د. محمد حسين حبيب مع تجربتي التطبيقية وقدمنا عرضا ربط العراق وبلجيكا في فضاء الانترنت اعتمادا على مختلف وسائل الاتصال السمعية والبصرية والكتابية ومنها السكايب.

حين التقيت پيتر ڤيرهايس عام 2005 أعاد إحياء فكرة مسرح الحرب، وهي فكرة وجدت طريقها للتنفيذ 1999 وقدمت عروضها في مختلف الأماكن ومنها يوغوسلافيا وفلسطين والشيشان... طوّر پيتر في مسرح الحرب وسائل (أونلاين) تسمح بالتحاور، بالتفاعل، باللقاء، زادها تبادل التجارب والأفكار عن معايشة الإنسان للحرب على المستوى الشخصي.

في (مقهى بغداد.. مسرح عبر الانترنت) ركّزنا پيتر ڤيرهايس وأنا على اللقاء بين فنانين عارضين في بلجيكا وآخرين في العراق. وضعنا في مقهى مسرح المونتي طاولة كبيرة وجلسنا حولها مع المشاهدين. كانت ثمة شاشة كبيرة خلف الطاولة تطل منها صور حية من العراق. كان الهدف أيضا أن نوصل مقهى مسرح المونتي بمقهى عراقي لخلق التوازن بين الحدث الافتراضي والملموس لكنّ ظروف الكهرباء العراقية جعلت ذلك غير ممكن.

عن طريق الوسائل السمعية والبصرية والكتابية انخلقت مشاهد حوارية بين العراق وبلجيكا. في تلك التجربة ألغينا بوعي الحدود بين الفنان وغير الفنان بهدف أن يصبح الجميع فنانا ومشاهدا.

وزعنا في ثلاثة أماكن من مقهى مسرح المونتي ثلاثة كتاب مسرحيين مع كومبيوترات ومترجمين وراحوا يتبادلون چاتات مع العارضين العراقيين. من بابل د. محمد حسين حبيب وسرمد السرمدي، ومن الموصل ناهض الرمضاني، ومن بغداد سوسن السياب وفاضل عباس وطه المشهداني. عبر الشاشات عرضنا نتائج الچاتات بالتعاقب وخلطناها مع صور عن بغداد، ومع فيديوات عن مسرحيات عراقية، وأغاني وغير ذلك.

اقتسم طاولة المقهى في بلجيكا أيضا فنانون عراقيون وبلجيك، وكانوا يعقبون على ما يحدث، ويتدخلون أحيانا بمجريات الأحداث. اشترك في العرض أبيضا من بلجيكا: روخيير سخيپارس "چات"، ورول ڤرنيرس "چات"، ويرون أولاي سليخرس "چات"، وفرانك اولبريخت "محرّض حي".

* هل كنت فعلا تسعى في مرحلتك الأوربية – كما يقول وديع شامخ – لإلغاء الحدود الثقافية؟. وكيف يتأتى لمسرحي شرقي ان يلغي حدودا ثقافية امدها مئات السنين؟. وهل القول انك بعد عقدين وجملة من العروض استطعت التخفيف من الحدود القائمة لا إلغائها؟.

أنا أسعى في عروضي لإلغاء الحدود الثقافية. السعي شيء وتحقيق المسعى شيء آخر. أمّا معنى السعي فهو ليس إلغاءا لحدود قوامها التقاليد والمنشأ والتربية. فهذا حلم طوباوي. إلغاء الحدود يعني الانفتاح على الآخر بدون شروط مسبقة وقبوله بسبب التوافق أو الاختلاف أو رغم الاختلاف.

إنّ اللقاء بين الرجل والمرأة هو لقاء بين نقيضين في الجنس. لكنه هو اللقاء الذي بدونه لا تستمر الحياة في دورتها. وهذا هو ما أفهمه عن إلغاء الحدود الثقافية. إنّ اللقاء مع الغرب مفيد بسبب التناقض المؤدي إلى التكامل، وهو مفيد لأنّه يجعلني دائما في حالة تربّص نقدي بنفسي لكي لا أتكاسل وأتراجع ولا تفتر همتّي في تطوير نفسي. الغربي بالنسبة لي هو مرآة نفسي التي لا تطابق نفسي.

تأريخ الفجيعة العراقية

* قيل الكثير عن الفجيعة العراقية واجتهادك في تقديم هذه الفجيعة على المسارح الغربية وبإطارات مختلفة حتى ان احد النقاد الغربيين علق قائلا (ثمة تدريس لجمهور حازم المسرحي مستمرا عن التعذيب والموت للسجناء العراقيين خلال هذه الفترة المظلمة وكأنه وهو يعرض تاريخ العقاب يجعل مما يحدث في العراق نموذجا تاريخيا وإنسانيا) كيف يمكن ان أعي دلالة هذا القول ؟. وهل انشات تاريخا للعذاب الإنساني هناك؟.

اسمح لي أصحح جزءا من المعلومة. فالمقطع المقتطف هو من إحدى مقالات الناقد العراقي ياسين النصير. وإذا حقّ لي أن أشرح ما قاله، فسأشرحه كما فهمته أنا ولا أدري إذا كنتُ سأوفق في شرح ما أراده الناقد الكبير. أظنّ أن المقصود بتدريس الجمهور لتاريخ التعذيب والموت هو أنني كمسرحي كنتُ أتناول في أعمالي المسرحية موضوع التعسف والديكتاتورية العراقية. ففي مجمل أعمالي لم أتناول سوى ثيمة واحدة، وهي تاريخ العذاب العراقي. إن الجمهور الغربي في سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي كان يحبّ صدام حسين ونظامه، وكان يعتبر صدام رجلا علمانيا اشتراكيا "مناهضا للإمبريالية والأصولية الدينية ونصيرا للشعوب المضطهدة". ولم يكن البلجيك - على سبيل المثال - سعداء بدخول المضطهدين العراقيين إلى بلدهم ونضالهم من تغيير تلك الصورة المخجلة. الأمر الذي كان يدفعهم للتعامل بقسوة مع العراقيين حين يقدمون طلبا لحق اللجوء، فتمرّ سنوات وملفّ اللاجئ العراقي مركونا على الرف. ولم تنكسر وتتغير هذه الطريقة بالتعامل مع العراقي إلا بعد احتلال صدام للكويت.

بعد غزو صدام للكويت انقسم الرأي العام البلجيكي إلى قسمين، قسم يرى فيه مناضلا ضد الامبريالية وقسم صغير يرى فيه ديكتاتورا وقاتلا. هذان النوعان من الجمهور كنت اصطدم بهما دائما. المعادي لصدام كان في معظمه تابعا أعمى لسياسة الأخ الغربي الأكبر: أقصد الأمريكي. وأمّا الغربي المناصر لصدام فللأسف كان ماركسيا، ديمقراطيا، يساريا، منهاضا للإمبريالية!!.

هل ترى؟. كنتُ طائرا غريبا في مثل هذه المعادلة التي لا تقبل الرسم إلاّ بواحد من لونين: الأبيض أو الأسود. هذا الطائر الغريب اضطر أن يجعل كلّ أعماله تركز على تاريخ العذاب الذي تسبب به صدام على مر تاريخه وعلى تاريخ العذاب العراقي الشامل والذي وجدناه قبلا في جلجامش الذي كان يدخل على العروس قبل عريسها والذي وجدناه على امتداد ساحات الحكايات الشعبية.

* تقام في العراق كل عام عدة مهرجانات ثقافية ومسرحية فهل تلقيت دعوات أنت وفرقتك لتقديم بعض العروض للجمهور العراقي؟.

لا.

لم أتلقّ دعوة من قبل.

مشروع مسرحي جديد

 * اتصالا مع السؤال السابق هل قمت بمبادرات أو وجهت دعوات لبعض الفرق المسرحية العراقية أو حتى لبعض المسرحيين المحليين للمشاركة في تظاهرات فنية أوربية بقصد التعريف والمثاقفة؟.

نعم.

قمت بمبادرات كثيرة.

بعد سقوط صدام عدت إلى العراق لأجل إنشاء مشروع مسرحي جديد. قدمت مسرحية ساعات الصفر في منتدى المسرح وأثارت ردود أفعال متباينة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وقد أخذت الفرقة الوطنية للتمثيل معي إلى أوربا وقدمتها في أهم المراكز الثقافية والفنية البلجيكية والألمانية. حدث ذلك أيام طيّب الذكر أستاذي سعدون العبيدي والأستاذ الصديق فتحي زين العابدين وأستاذي الذي أفخر به فخري العقيدي.

* أصحيح انك قلت مرة انك تريد معالجة القطيعة التي يعانيها المسرح العراقي مع المسرح العالمي بسبب الظروف السياسية؟ وهل حققت نجاحا في هذا المسعى؟ وما مصير فرقة (القرين) التي تشكلت اثناء وجودك زائرا لبغداد؟.

نعم قلت هذا، وقلت كلاما آخر، وكانت تحدوني الرغبة في بناء شيء جديد فعلا على الضد مما فعله صدام حسين - وسماسرته من الفنانين - من تجهيل وتعتيم على المعلومة الثقافية، وكنت وضعت علاقاتي تحت الطلب لهذا الغرض فاتفقت مع أستاذي في بلجيكا يان روتس وصديقي ممثل البيوميكانيك المعروف توني دو ماير وأستاذي المختص بمسرح يوجينو باربا لودو فان باسل وأرسلت رسالة إلى ريينا ميريسكا آخر ممثلات جروتوفسكي الأحياء.. اتفقت معهم على أن يساندوني في المشروع وقد وافقوا ووقعت في تلك الايام عقدا للتعاون مع دائرة السينما والمسرح. كانت رغبتي ان أرأب ما استطيع من الخلل بين المسرح العراقي في تلك الايام والمسرح المعاصر، وكتبت عن هذا الموضوع.

*هل حققت النجاح في هذا المجال؟

أستطع أن أخبرك بأني هيئت طاقما ممتازا لهذه المهمة وخططا تربوية مكتوبة وحتى خطط ادراية لتحقيق المشروع، وقد أوصلت هذه المشاريع إلى المسئولين في الحكومة المركزية وفي اقليم كردستان ومحافظة كربلاء. لكني لم أطرق أبواب المؤسسات الثقافية كمثل المدى ذلك لاعتقادي أنّ المشروع بحاجة إلى بنية تحتية رسمية من الدولة. هذا على الصعيد الشخصي والأوربي، ولكن على الصعيد العراقي فقد أسسنا فرقة القرنين لتقوم بدور ما في هذا السياق، وقد كان من المؤسسين حميد عباس، وطه المشهداني، وعلاوي حسين، وسامر الصراف، بيد أنّ هذا المشروع بقي نظريا بسبب طبيعة الأوضاع العراقية، فها أنت ترى أنّ النظام المركزي مازال يحكم العملية الفنية.

الثقافة العراقية والرقابة

* كانت لكم مبادرة اواخر العام 2011 لإقامة مهرجان كبير للثقافة العراقية في أوربا بهدف إيصال الصوت العراقي إلى مثقفي العالم ؟ كيف جاءت أصداء المهرجان وهل في النية تكرار المبادرة؟.

في الحقيقة مبادرة العام 2011عنيت بقضية الثقافة العراقية وهي لم تكن مبادرة فردية. لقد تمت دعوتي من قبل الحزب الشيوعي العراقي لتنظيم الجانب الثقافي من المهرجان السنوي الشهير (لومانتييه)، فاشترطتُ أن أقوم بما أريد دون رقابة ودون آيديولوجيا، أيّ أن أدعو كل من أريد بغض النظر عن اختلافه أو اتفاقه مع الحزب الشيوعي. وبناءا على ذلك استضفت في المهرجان مثقفين من كافة المشارب الفكرية والابداعية العراقية ماعدا المثقف ذو المشارب البعثية أو الأصولية (بشتى أنواع الأصولية). وهذا ما كان. اقيمت فعاليات المهرجان بنجاح كبير في خيمة (طريق الشعب) في المهرجان، وافتتح المهرجان بمقابلة من أحد اكبر المثقفين العراقيين أعني محمد خضير وشارك في المهرجان مثقفون من الداخل والخارج.

كان سؤال المهرجان المركزي هو: لماذا يريدون منّا أن نرتدي الظلام؟. ولم تكن هناك بيانات سياسية سوى الفعل الابداعي نفسه: الالوان والكلمات والحركات وعدسات الابداع. لا بكاء ولا نوستالجيا بقدر ما كنا ننظر بواقعية لما يحدث لوطننا الرازح تحت الاحتلال لنضع النقاط على الحروف.

كان إظهار تنوع الثقافة العراقية ووحدتها في المهرجان هو الحلقة المركزية وستبقى هذه الوحدة حاجة ما بعدها حاجة بالنسبة لي، وبخاصة في يومنا هذا، يوم الانكفاء عن وحدة الوطن وظهور الطائفية واستخدام التنوع ذريعة لتمزيقه. لقد وجدت في مساهمة كوكبة من المبدعين ممن كان يبدو أنّهم غير قابلين للقاء تأكيدا على وحدتنا.

هذا المشروع الثقافي افتتحه الكاتب الكبير محمد خضير واشترك فيه تشكيليون ومسرحيون وموسيقيون وسينمائيون وفوتوغرافيون وأدباء ومن بينهم آزاد ناناكلي، أناهيت سركيس، علاوي حسين، تيسير الالوسي، كريم ابراهيم، حميد البصري، سهام حسين، إحسان الجيزاني، علاء قحطان، صلاح جياد، عهود ابراهيم، صلاح الحمداني، ضياء الخزاعي، فيصل لعيبي، قاسم عبد، كاظم النصار، كامل حسين، كفاح الريفي، عفيفة لعيبي، علي عساف، ماجد مطرود، محمد الدراجي، محمد حسين حبيب، هادي النجار.. مع الاعتذار لترتيب الأسماء واعتذار خاص لمن فاتني أن أذكر اسمه.

كانت طبيعة عروض المهرجان متنوعة منها ما هو حيّ ومنها ما هو ديجيتالي. طيف واسع من العروض المسرحية وجد طريقه إلى شاشات تلفزيونية كبيرة بجودة فنية عالية، وعروض تشكيلية (لوحات ـ إنستاليشنس)، وكاريكاتور، وفوتوغراف، وسينما، وموسيقى، وشعر.

كما قمنا بلقاءات حية مع مثقفين عراقيين في بغداد وبقية مدن العراق حيث تحدثوا عن واقع العراق الثقافي اليوم دون مواربة. جوابا على الجزء الثاني من سؤالك بودي أن أخبرك بأن هذا المهرجان سنوي وأتمنى أن يواصل اضاءة الثقافة العراقية من كل مشاربها بلا تمييز.

* قبل سنوات نوقشت في بلجيكا رسالة ماجستير عن مسرحك بعنوان (تأثيرات شرقية في المسرح الغربي المعاصر) أكدت على انه في مجال المسرح تم اكتشاف الشرق باعتباره مصدرا للتجديد وان للشرق تأثيرات على المسرح الغربي المعاصر.. برأيك آثمة براهين مكتوبة أو شفوية تثبت هذه التأثيرات خارج الكتب والتدوينات الشائعة؟. وكيف تأتي باحثة بلجيكية بهذه الخلاصة الهامة في وقت يقود بعض الباحثين العرب حملات لإنكار معرفة العرب بالمسرح؟!.

الجواب عن هذا السؤال موجود في الأطروحة نفسها. الأطروحة مترجمة منذ عشر سنوات، وقد سمعتُ أنّها ظهرت قبل فترة في كتاب صادر عن دار الشئون الثقافة العراقية!.

اضطررت لمغادرة العراق

* ماذا تقول في معضلة عويصة اسمها المؤسسات الثقافية الرسمية في العراق وهل كان لها دور في نهضة وإسناد الثقافة والمثقفين؟. وكيف كانت علاقتك بتلك المؤسسات سواء عندما كنت في العراق ام بعد هجرتك؟.

لا أستطيع أن أتحدث عن دور المؤسسات الثقافية الرسمية في العراق ودورها في نهضة وإسناد الثقافة لسبب بسيط أنني اضطررت لمغادرة العراق في سن مبكّرة جدا، وما أعرفه عن تلك المؤسسات لا يتعدى ما قرأته هنا وهناك وما سمعته من هذا الصديق وذاك. أما تجربتي الشخصية مع تلك المؤسسات فقد كانت على شحّتها علاقة فنان مع جهاز قمعي!.

فما عدا فرقة المسرح الفني الحديث التي سمحت لنا أن نقدم عروضا (شبابية) كانت الفرقة القومية تقتصر على من سبّح بحمد الإله (صدام حسين)، أمّا من كان ملحدا بتلك الآلهة فلم يكن له مكان. لقد منع النظام السابق مسرحيات كثيرة وأشهرها دائرة الفحم البغدادية، ولم أكن شخصيا خارج تلك البركات الملعونة. فقد حصل لي ما حصل على أثر إخراجي المسرحية الشهيرة (الملك هو الملك) والتي مازال الأصدقاء يتذكرونها.

في تلك الأيام كانت هناك فرق أهلية ترتبط عضويا بالثقافة التقدمية، الأمر الذي جعل رقبتها عرضة لسيف الرقيب البتار حرفيا. فثقافة قطع الأعناق ليست ثقافة تنظيم القاعدة كما يظنّ الناس، بل إنّ القاعدة استلهمت هذه الثقافة من حجّاج القرن العشرين: صدام حسين. فيما يخص المؤسسات الرسمية الثقافية فأحيلك إلى من كان مناصرا للنظام تلك الأيام حيث يجب أن يسأل عن علاقته بالمؤسسة!!.

من الفروق الكبرى بين المسرحي العراقي والأوربي هو الحرية

* هل لي ان اعرف منك – بعد معايشة لأكثر من ثلاثين عاما- ما الفروقات التي وجدتها بين المسرح العراقي وبين المسرح الأوربي وهل يمكن أن تزول الفجوة القائمة بينهما؟.

بتكثيف شديد: من الفروق الكبرى بين المسرحين هو الحرية. ففي المسرح الأوربي لديك حرية تناول ما تشاء وبالطريقة التي تشاء، ولا يوجد على رأسك رقيب على العكس من مسرحنا الذي يفتقد الحرية رغم ما يشاع عن غياب الرقيب.

الفرق الآخر هو الأصالة. فالمسرح الأوربي أصيل بينما مسرحنا ليس كذلك. المسرح الأوربي يعتمد طقوسه المؤسسة على علاقاته الاجتماعية وصيرورتها وهو مسرح يطعّم طقوسه بطقوس أخرى على أن تبقى طقوسه هي الأساس. أما المسرح العراقي، فحسب معرفتي واطلاعي، هو يتأرجح بين البحث عن أصول خاصة به وتأصيلها وبين محاكاة المسرح الغربي أو إعادة إنتاجه. كلامي هذا يتوقف عند عام 2003. فمنذ عام 2003 غرق المسرح العراقي وأصبح يبحث العراقي عن العودة إلى الوجود.

المسرح الأوربي مبني على مناهج تراكمت عبر آلاف السنين واعتمد بالأساس على تطور العلاقات الاجتماعية ومنتوجاتها والتكنولوجيا، أمّا المسرح عندنا فعمره لا يتجاوز القرنين من جهة ولا يعتمد تطوره على العلاقة الجدلية بين المسرح والمعطيات المحيطة به. بل يعتمد على معطيات غير محيطة به، أعني تطور التقنيات الغربية، وهذا شيء غريب، فالتقنية المسرحية يفترض أن تكون استجابة لتطور اجتماعي عضوي.

المسرح الأوربي منهجي، يعتمد مبادئ التأليف على الخشبة والميزانسين والميترانسين والكوريوغرافي والمولتي ميديا والتكنولوجيا والدرماتورغي والمنظور. وهو مسرح لا يهمل ما يحدث من تطور في بقية المجالات سواء كانت فنية أو ثقافية أو علمية ويحاول أن يعكس هذه التطورات على المسرح. أمّا مسرحنا فالجواب سيكون عندك عندما تقارن بين ما ذكرته وبين ما يحدث في مسرحنا.

أودّ أن أقول في هذا المجال إنّ هذه الفجوات من الممكن جدا أن تزول. ذلك أن الفنان العراقي فنان موهوب وحساس وسريع التعلّم والابداع، ولكن يجب أن تتاح له فرصة معايشة تجارب أخرى وفرصة التفاعل مع محيطه تفاعلا صحيا.

يوجد في الغرب الكثير من الفنانين العراقيين القادرين على نقل التجربة الغربية بطريقة تأخذ ما ذكرته بنظر الاعتبار، وهم قادرون على التعامل مع العناصر الأصيلة لثقافة العرض العربية وتحويلها إلى مصادر عرض جديد، كما فعل اليابانيون من قبلنا في مسرح البوتو مثلا. المطلوب سياسة ثقافية بعيدة عن الكراهية والتكفير والتحزب والتشرنق والأهواء الشخصية.

إنّ الأحلام لم تتحقق!!

* اعرف ان أحلام المثقف كثيرة وعسيرة وقد تحتاج لأكثر من حياة لتحقيقها ولكن مع النجاحات التي حققتها هل يمكن القول ان جعبة الأحلام قد تحققت؟. وهل ثمة معوقات تحول دون تحقيق بعضها؟.

إذا أردت أن أصدقك القول فاسمح لي أن أقول إنّ الأحلام لم تتحقق!!

لقد كانت الحياة في المنفى بالنسبة لي رحلة مطولة من النضال للبقاء على قيد الحياة الفنية. حياة لم تتوفر فيها فرصة حقيقية للبحث المستمر الهادئ المطمئن غير المهدد بلقمة العيش. في أوربا عليك أن تعلم بأنّك يجب أن تبذل أقصى جهدك لا لأجل أن تكون جيدا، بل لأجل أن تكون متفوقا على الأوربي. فمقاييس الأوربي ذات جذور عنصرية خفية. عليك في أوربا أن تكون الأول لكي تحصل على المرتبة الثانية. فالمرتبة الأولى محجوزة وبشكل شبه دائم للأوربي.

وأما إذا ادعّى أحد أنّه وصل فمعنى ذلك أنّه مشغول في متاهات ما يسمى ثقافات الأجانب والأقليات والتعددية الثقافية.. الخ. وفي هذا المجال توجد أبواب مشرعة للوصول شريطة أن تبقى أجنبيا مرتضيا لنفسك دور الأجنبي ولا تطالب بمعاملتك كفنان إلا انطلاقا من أجنبيتك.

لو تحققت لي فرصة البحث بأمان فمازال في الإمكان تحقيق بعض الأحلام، ولكن قل لي أين؟ أمّا إذا كنت تقصد بتحقق الأحلام شهرة الاسم وغير ذلك، فهذه الأحلام غير موجودة في قاموسي الشخصي.

الورق والمسرح

* أراك تجمع بين الأدب والفن والأكاديمية في آن فهل تجد في هذه المجالات الثلاثة ما يقرب بعضها من بعض ام ثمة تباعدات تجعلها عسيرة التلاقي في وقت واحد فتنشغل ببعضها عن البعض الآخر.

كل شيء في الحقيقة يقود إلى كل شيء. الأدب يقود إلى المسرح والمسرح يقود للأدب وللبحث الاكاديمي، والبحث الأكاديمي يقود إلى الجانب العملي ولكل موضوع طريقته الخاصة للخروج إلى الناس تارة على شكل عرض وتارة نص مكتوب أو بحث في جامعة.

في هذه المرحلة أركز على مشاريع روائية في محاولة لتدوين ما لم يتحقق على المسرح، معتمدا على خبراتي القديمة في مجال الكتابة السردية. وتركيزي هذا يحاول أن يضع على الورق ما لم تستطع أن تقوله عروضي المسرحية بالإضافة إلى رغبة تحويل هذه الأعمال غير القابلة للقراءة كأدب، إلى أدب صالح للقراءة. علما إنّني لا أرى أيّ تناقض بين عملي كمسرحي أو انشغالي بالعمل الروائي أو الأكاديمي. فكل الطرق تؤدي إلى إنتاج قضية إبداعية ما.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/شباط/2014 - 16/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م