بلاد الانقلابات وغربة الديمقراطية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: بين جماهيره وأنصاره ومحبيه، لم يتخلّ الفريق أول عبد الفتاح السيسي عن بزته العسكرية الزاهية والأنيقة التي تتنوع على أزياء مختلفة، فمن البزة الضيقة (الشبابية) باكمام قصيرة في الصيف الماضي لدى اعلانه الانقلاب العسكري، أو البزة التقليدية، او البزة الرسمية (الجاكيت) المزينة بشارات ورتب كثيرة.

أما القبعات، فهي الاخرى تنوعت على اشكال مختلفة ذات ألوان جذابة. لكنه تخلّ عن كل ذلك عندما توجه الى العاصمة الروسية في أول زيارة له منذ توليه الحكم في تموز العام الماضي، بل هي اول زيارة رسمية يقوم بها السيسي خارج مصر. فهو ما يزال يتولّى منصب وزير الدفاع وايضاً القائد العام للقوات المسلحة، مع ذلك توجه الى موسكو بالبدلة المدنية الأنيقة ليكون قريناً في مظهره، لوزير خارجية مصر نبيل فهمي.

وبعيداً عن "أضخم صفقة عسكرية لأسلحة روسية تتسلمها القاهرة تتضمن أحدث طائرات الهليكوبتر ونظام دفاع جوى هو الأحدث في العالم"، كما جاء في مصادر عسكرية رسمية، فان الأهم هو استقبال الحكومة الروسية للسيسي بصفته المسؤول الأعلى في الدولة المصرية التي ما تزال تتأرجح صورتها بين النظام الديمقراطي – البرلماني، وبين النظام الرئاسي – العسكري، ومع علم الروس بأن السيسي يمهّد لإعلان ترشيحه لانتخابات رئاسة الجمهورية قريباً، كما يعلمون أن ضيفهم المصري، تحوّل الى زعيم لمصر وشعبها، قبل ان تصل أيادي المصريين الى صناديق الاقتراع، علماً إن في  مصر رئيس حكومة انتقالية هو "حازم البيلاوي"، ويفترض ان يكون أعلى سلطة تنفيذية في البلاد.

طبعاً؛ هذه ليس أول مرة يتحول فيها قائد انقلاب عسكري في بلادنا العربية، الى رئيس مدني يحظى بالشرعية في الداخل والخارج، بل حتى يكتسب الشرعية والاعتراف الدولي من العواصم الكبرى والمنظمة الدولية. فقد حصل ذلك في السودان عام 1989 عندما قاد الفريق عمر حسن البشير انقلاباً عسكرياً على رئيس الوزراء الصادق المهدي، كما فعلها الجنرال برويز مشرف قائد الجيش الباكستاني، بانقلابه العسكري على رئيس الوزراء نواز شريف عام 1999، والمثير في أمر هذه الانقلابات أن معيار الشرعية والنجاح فيها، في كمية الدماء التي يقتصدون بها خلال "العملية الانقلابية"، علماً أنهم ينقلبون على أنظمة حكم ديمقراطية، ويزيحون رئيس حكومة جاء عبر صناديق الاقتراع. مثلاً؛ الجنرال مشرف يفتخر أنه نفذ الانقلاب "دون اراقة قطرة دم واحدة.."!، ومن المؤكد ان يكون هذا بمنزلة البشارة للشعب الباكستاني من ان زعيمه الجديد ليس من محبي اراقة الدماء، ويسعى لبسط الأمن والاستقرار في البلاد..!، وللعلم فان النظام الجديد الذي أرسى دعائمه هذا الجنرال الباكستاني، حُظي بالاعتراف الدولي والأممي فوراً، لاسيما من الولايات المتحدة والعواصم الأوربية، وسط دهشة واستغراب المراقبين الدوليين، في وقت لم تشهد باكستان أي حراك سياسي او حالة تمرد او اوضاع غير طبيعية تستدعي الانقلاب او تغيير نظام الحكم.

وفي مصر التي أريقت الدماء وتعرضت للمتاجر والمؤسسات الحكومية والاهلية للسلب والنهب والتدمير، وتعزعزع الأمن والاستقرار بشكل خطير، فان الحاجة تكون اكثر إلحاحاً لزعيم قوي يعيد الامور الى نصابها، وهذا تحديداً ما نسمعه من شريحة واسعة من الشعب المصري عندما يتحدثون عن "السيسي" بأنه الرجل القوي الذي بامكانه توفير الامن والاستقرار للبلاد. وقد شوهدت صور ثلاثية يرفعها المتظاهرون في مصر، وهي تضم "جمال عبد الناصر، أنور السادات، السيسي".

إذن؛ اين "الديمقراطية"؟، واين حصاد "الربيع العربي"؟.

يبدو أن حساب الحقل لم يتوافق و حساب البيدر – كما يُقال- فقد ثارت الجماهير العربية من اجل هدف جوهري – الى جانب اهداف اخرى- وهو أن يستعيدوا ذواتهم ويحققوا ارادتهم في المشاركة بالقرار السياسي وفي نظام الحكم بشكل عام، وهو ما كان مقتصراً على الزعماء الإصنام، من امثال "القذافي"، و"بن علي" و"مبارك" وغيرهم، فظهرت الاحزاب والجماعات الحاضنة للافكار الديمقراطية والمشاركة السياسية والتعددية الحزبية، وفي المقدمة جماعة الاخوان المسلمين، كونهم الجماعة الأكثر نضجاً من الناحية الثقافية والفكرية، واعمق تجربة في الحياة السياسية، فكان جناحها الأوسع بساطاً في مصر، وأقل – الى حد ما- في تونس، لكن الذي حصل في مصر أن هذه الجماعة قبل ان تواصل مشروعها الثقافي ذو العمر الطويل، ميعته في بوتقة السياسة وهموم السلطة وطرق الهيمنة والنفوذ في دوائر الدولة، وربما يعذر المراقبون والمتابعون للشأن المصري هذا التهافت السياسي من الجماعة، بسبب خشيتهم من الأذرع الاخطبوطية للمؤسسة العسكرية في مرافق اقتصادية عديدة، وامتلاكها أسهم وحصص في مؤسسات انتاجية واستثمارات ضخمة في البلاد، الى جانب ظلالها الكثيفة على القضاء والمؤسسة السياسية في الدولة، فلم يبق لهم سوى مجلس الشعب – البرلمان- الذي حولوه الى وسيلة لتكريس هيمنتهم وسيطرتهم على مجمل الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد، وكان أول خطأ هو التعديل الدستوري الذي أتاح للرئيس المعزول محمد مرسي صلاحيات كبيرة، الامر اثار مخاوف المتنفذين في المرافق الاقتصادية والسياسية. وكان مآل الأخوان خلال عام واحد، الانزلاق من المسار الثقافي – الفكري طيلة العقود الماضية، الى مستنقع السياسية والسباق المحموم على كسب مواقع النفوذ، فكانت ظواهر التمييز والمحسوبية والفئوية في التعيينات الحكومية، والسماح باستفحال الطائفية السياسية من خلال إطلاق يد السلفيين في إلغاء وتكفير من يعارضهم في الرأي والعقيدة. وهذه هي الثغرة التي كان تبحث عنها المؤسسة العسكرية والجماعات السياسية المناوئة لحكم الأخوان، الامر دفع بالمراقبين الى توجيه اصابع الاتهام في بعض العمليات الارهابية التي شهدتها مصر مؤخراً الى أيادي مخابراتية محترفة في تنفيذها وليس بالضرورة ان تعود الى أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، بما يسهم في إذكاء نار الفتنة والاضطرابات، وتزيد من حالة الظمأ الى الأمن والاستقرار.

في خضم هذا الضجيج، من الطبيعي ان يغيب صوت "الديمقراطية" التي يعبر عنها بعض المفكرين أنها "تضمن حق الأقلية"، فضلاً عن تحكيم صوت الشعب والأكثرية منه في القرار السياسي. فالارادة الجماهيرية بتطبيق الديمقراطية، تشكل البذرة الطيبة المعبرة عن الفطرة السليمة للانسان الطامح نحو النمو والتطور والبناء، تبقى مهمة ومسؤولية النخبة المثقفة والشريحة الواعية التي يجب ان توفر شروط تحقيق تلكم الطموحات المشروعة، لا أن تترك الساحة للجدب والظمأ الثقافي وبدلاً من ذلك، إشعاله بنيران الفتن السياسية والطائفية، بحيث ينسى الناس أنهم يوماً ما طالبوا بالديمقراطية والحرية والعدالة والقيم النبيلة، ويكون همّهم الأول والاخير، الأمن والاستقرار، وأن يخرج الانسان؛ رجلاً أو إمرأة او طفل، من بيته ويعود سالماً غانماً.

وهذا تحديداً يفسر السبب في اعتراف الدول الكبرى بالانقلابيين عندما يتسلقون كرسي الحكم وسط رغبة جماهيرية واسعة. فهم في ذلك يطبقون مبدأ "الأمر الواقع" وهي "البراغماتية" البغيضة التي تشهدها معظم بلادنا الاسلامية، وما تزال.. لذا نرى من السهولة أن يتسلّق شخص مثل "صدام" على كرسي الحكم وينفذ مغامراته وسياساته التدميرية، رغم ان الجميع يرون انه يخوض في دماء مئات الآلاف من العراقيين، كذلك الحال في شخص مثل "القذافي" الذي حكم ليبيا طيلة اربعين سنة، وهو يعبث بأعراض الليبيين ومصائرهم، كما تكشف الحقائق شيئاً فشيئاً.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 15/شباط/2014 - 14/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م