المرجعية القائدة والناس

الطيب من القول والبذرة الحسنة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: من الطبيعي جداً أن يبحث عن الناس.. كل الناس، عن الكلمة الطيبة الداعية للحياة والنمو والخير، لان هذه الدواعي تنسجم مع ضمير الانسان وفطرته السليمة، أما ما نشاهده من اختلاف في السلوك والعادات والتوجهات لدى افراد المجتمع، فهي ظاهرة اجتماعية طبيعية، ومن الطبيعي ايضاً، ان صاحب الذكاء الاجتماعي، هو من يحمل هذه الكلمة الطيبة وينثر بها على الأرض الظامئة، فتكون كالغيث النازل من السماء، تتلقفها الأرض الطيبة وتحيا بها، وربما تكون فرصة لأرض اخرى لأن تزيل عن سحنتها، الجدب والانكماش على الذات، فتنبسط هي الأخرى لتجرّب التعامل مع الماء الزلال بما هو أهله، لا أن ينزل ويسيح ثم يتسرب في أخاديد الأرض السبخة وينتهي الى مجهول!

ربما تكون هذه، صورة مصغرة للعلاقة المطلوبة بين افراد المجتمع، وبين من يحمل مسؤولية التوعية والثقافة الدينيين من خريجي الحوزة العلمية، وهم بين خطيب أو امام مسجد أو مؤلف، أو صاحب مؤسسة ثقافية، او غير ذلك.. هذه العلاقة – بالحقيقة - ممتدة منذ عهد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، حيث كان يشكل الوجه الأول لها؛ أولئك الذين وصفهم الإمام علي، عليه السلام، في تصنيفه الناس بأنهم "عالم متعلّم أو طالب على سبيل نجاة.."، بينما الوجه الآخر تشكله الشريحة البعيدة عن شعاع العلم والمعرفة والثقافة، لسبب أو لآخر، مما يجعلها تتعرض لإحراجات نفسية، واحياناً كبوات واسقاطات تاريخية خطيرة، كما نقرأ عن ذلك الرجل الذي يسيئ لذلك الإمام المعصوم، ثم يعتذر منه، أو ذاك الذي يتهجّم ويشتم، ثم يعود الى رشده. أو الاختبار التاريخي العظيم الذي سقط فيه أهل الكوفة مع الإمام الحسين، عليه السلام. بمعنى أن الوجهين يعودان لمطلب واحد، وهو توثيق العلاقة مع المجتمع بكل شرائحه وانتماءاته، فالعالم يكون أكثر علماً، والطالب يصل مبتغاه من العلوم والمعارف، وعامة الناس تصل الى حالة الوعي واليقظة، بما يمكنها من الاختيار الصحيح والايمان بما من شأنه ان يوفر لها الحياة السعيدة.

من هذا المبدأ انطلق سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في حركته النهضوية في عقد الخمسينات، مدركاً أن مهمة نشر الوعي الديني، وحمل الناس على الالتزام بالاحكام والفرائض وتبني القيم الاخلاقية، وهي تُعد من اهداف العلماء والخطباء الطامحين، لن يكتب لها النجاح، إلا اذا جاءت تلك الكلمة الطيبة وانتثرت على نطاق واسع في أرجاء المجتمع، ولم تقتصر على بقعة دون أخرى، او جماعة دون آخرين. ولذا نراه قد حفر مساراً عميقاً في الساحة الثقافية لن يُمحى مهما كانت الظروف والاحوال، متمثلاً بـ "الاخلاق". وهو الدرس العظيم الذي تعلمه من أكبر وأول معلّم له – كما تشير سيرة حياته- وهو الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله. فبامكان الجميع استشعار "الاخلاق الشيرازية" باشكال متعددة، من خلال اللقاء به والتحدث اليه، وايضاً من خلال مواقفه ومؤلفاته وعطائه وحتى مشاريعه الحضارية العظيمة. وعلى هذا النهج يسير شقيقه المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- حيث يلاحظ كل من يلتقي به او يتابع اخباره وأحاديثه ، حالة العطاء الشامل، ومنها ما جاء في دعوته مؤخراً بتبني مبدأ اللين حتى مع الأعداء، مستشهداً بالحديث النبوي: "اشبهكم بي.. وألينكم كنفاً"، حيث يوضح سماحته بأن "الشخص الألين، يعني الذي لا يخافه الناس، ولا يهابونه ولا يخافون ولا يخشون ما يصدر منه من تعامل وقول وعمل..".

وعندما نتحدث عن الذكاء الاجتماعي، نعني بالقول.. وإلا فان الساحة الثقافية والدينية، تعجّ بالافكار والاحاديث بفضل وسائل الاعلام والاتصال السريعة، فاليوم ليس البارحة، حيث المنابر تخاطب الحاضرين تحت سقف واحد، إنما المنبر الحسيني وكذلك المقالة والمحاضرة، تنتشر بسرعة البرق الى جميع انحاء العالم، وبإمكان كل شخص أينما كان، أن يتابع هذه المحاضرة الدينية او المنبر الحسيني او المقالة التي تحمل الثقافة الدينية. لكن هل كل ما ينشر ويقال، تجد فيه الأمة حياتها.. ؟ من هنا نجد حرص المدرسة الشيرازية على التمسك بمنهج الاخلاق في التعامل مع عامة الناس، كونهم القاعدة التي يقوم عليها الهرم القيادي – المرجعي، فالجماهير التي تجد علماء الدين على صلة وثيقة بها، تتعاطي بالتي هي أحسن، وتقدم وتضحي، فهي بالمقابل ستتعلم من هذه الدروس، وتكون السند الأمين لها، بل تكون من عوامل نجاح وتفوق المؤسسة الدينية في مشاريعها ومواقفها.

وطالما كان يشير سماحة الامام الراحل الى هذه النقطة الحساسة والدقيقة، وفي لقاء به – قدس سره- خاطب طلبة الحوزة العلمية بأن يتعلموا كيفية كسب قلوب الناس من خلال احترام مشاعرهم وافكارهم، وقد سرد لنا مثلاً واقعياً قال انه جاء من مشاهدة عينية له، في إحدى المجالس الحسينية الكبيرة في سالف الزمان، حيث رأى خطيباً يدخل الحسينية، فينهض له جميع الناس لاستقباله والترحيب به، كما رأى في يوم آخر، خطيباً يدخل نفس الحسينية، وهي مكتظّة بالحاضرين، إلا انه كان "يتخطّى الرقاب"، كما عبّر سماحة الإمام الراحل.

وللحقيقة نقول: إن المدرسة الشيرازية التي كتب عنها الكثير من الباحثين والمؤلفين، كما عرفها الكثير من الناس، من حقها أن تأخذ المكانة التي تستحقها في الساحة الثقافية، كما هي الآن في الوجدان والضمائر، إذ لا يجرؤ أحدٌ على القول بأن السادة من آل الشيرازي، يتصفون بالغلظة والتقوقع والذاتية، حتى بعض المناوئين والمخالفين أقروا بوجود عنصر "الاخلاق" في البناء الفكري والثقافي لهذه الأسرة – المدرسة، حتى قال لي أحدهم ذات مرة، وهذا كان في حياة الإمام الراحل: "إن مرجعكم يبنى دبلوماسية الأخلاق"..! وهذا مدعاة للفخر والاعتزاز بأن نسمع هذا الإقرار بوجود هذا العنصر والمبدأ الأساس في مشروعنا ومسيرتنا، ولو حسب الرؤية الخاصة بصاحبه، وهذا يعني أننا امام مسؤولية تاريخية وحضارية لتكريس هذا المبدأ في الساحة الثقافية من خلال مختلف اشكال العطاء والنتاج، سواءً كان بالقلم او الحديث او الموقف او حتى من خلال تولّي مشاريع وأعمال ذات صلة بالمجتمع، مثل المشاريع الخيرية والتربوية والتنموية وغيرها، حتى يتحقق التطابق بين ما يعرفه الناس ونحن ايضاً، من نهج اللين، والاحترام، والعطاء، وسائر المفردات الاخلاقية السامية، وبين ما يجدونه على الساحة، إذ في هذه الحالة سيكون التفاعل والاستجابة ثم النمو وأخيراً العطاء، الذي يكون ربما بالتغييرات الكبيرة على الصعيد الاجتماعي، بالتماسك والتكافل والتقدم، أو حتى على الصعيد السياسي، بالمشاركة في القرار وتقرير المصير.

وأجد من نافلة القول ما أختم به، لعله يفيدنا في مسيرتنا وعملنا وحياتنا، ما جاء من سيرة حياة الامام الراحل مع الناس، حيث سأله ابنه الفقيه الراحل، عن سبب اجتنابه المباحات في حياته، وهي ضرورية.. فكان جوابه – قدس سره- بأن "الناس لو رأوا أننا نعمل بالمباحات، لن يقوموا بالواجبات..". والعاقبة للمتقين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 9/شباط/2014 - 8/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م