صعود وسقوط نموذج الدولة الفاشلة

حاتم حميد محسن

 

منذ منتصف التسعينات وحتى عام 2010، كانت حكاية الامن القومي السائدة في الولايات المتحدة تؤكد على الخطر الذي تجسده الدول الضعيفة والفاشلة(1). هذه الدول يُنظر اليها باعتبارها مصدراً للارهاب، والفوضى الاقليمية، الجريمة، الامراض، والكوارث البيئية. ولكي يتم التعامل مع اصل هذه المشاكل، يسير الجدال، بان على الولايات المتحدة ان تتدخل بقوة لإيجاد الاستقرار في الدول المضطربة، وذلك بالمشاركة في بناء تلك الدول وفق مقياس امبريالي جديد. تدخّل الولايات المتحدة هذا كان واضحا في الحملات الطويلة في افغانستان والعراق.

وبعد عقد من الصراع والقليل من الجهود المثمرة الواضحة، اقترب العصر الاخير لتدخل الولايات المتحدة في بناء الدول من نهايته. وعلى الرغم من ان هناك اسباب عملية لهذا التحول – الولايات المتحدة لم تعد تستطيع القيام بمثل هذه المهمات، والرأي العام قد تعب منها – فان الانحدار في قصة بناء الدولة يعكس وبعمق الحقيقة الكامنة: وهي ان القلق من الدول الضعيفة هو دائما هاجس اكثر من ان يكون عقيدة استراتيجية سليمة. فشل هذه القصة سوف لن يترك الولايات المتحدة بكثير من العزلة والضعف وانما سيسمح لها للتركيز على ادوار عالمية اكثر اهمية.

نشأة النموذج

في اعقاب الحرب الباردة، وبعد التفكير ببيئة امنية اكثر هدوءاً، استنتج العديد من المهنيين واستراتيجيي الامن القومي الامريكي بان المخاطر الاكثر اهمية تتجسد بهشاشة هياكل الدول الضعيفة ونصحوا نتيجة لذلك بإجراء تحول عميق في السياسة الخارجية الامريكية وسياسة الدفاع. يستمر هؤلاء في الجدل بانه في هذا العالم المترابط، بدأت مظاهر العنف والفوضى والقمع في كل مكان تؤثر على المصالح الامريكية، وان الدول الضعيفة كانت مصدراً لمثل هذه الشرور. تجارب الصومال وهاييتي ويوغسلافيا السابقة عمّقت من تلك المخاوف، وفي عام 1994، مولت وكالة الاستخبارات الامريكية قوة مهام خاصة للدول الفاشلة تتولى معالجة المشكلة.

وفي عام 1997، اصدرت ادارة كلنتون قرارا رئاسيا رقم 56 تحت عنوان" ادارة عمليات طوارئ معقدة"، بدأ بالاعلان ان "في اعقاب الحرب الباردة، كان الاهتمام منصبا على عدد من النزاعات الاقليمية، الصراعات العرقية المسلحة، والحروب الاهلية التي مثلت تهديداً للسلم الاقليمي والدولي". التركيز الجديد لسياسة الولايات المتحدة، طبقا لذلك، سيكون الاستجابة لهذه المواقف بعمليات متعددة الابعاد مؤلفة من عناصر سياسية/دبلوماسية، انسانية، مخابراتية، تنمية اقتصادية وأمن".

نقاد الاتجاه الواقعي عارضوا هذه القصة الجديدة، قائلين ان ادارة كلنتون في محاولتها التوجه نحو بناء الدول الهامشية يجسد حماقة استراتيجية. وخلال حملة الرئاسة عام 2000، عمل جورج دبليو بوش كمرشح للسياسة الخارجية المتواضعة، قائلا ان بناء الدول كان يمثل الهاءاً خطيراً. مستشارته كونداليزا رايس تذمرت من ان القوات الامريكية لا يجب مطالبتها بحراسة تلاميذ المدارس، نائب الرئيس ديك شيني، اقترح على ادارة بوش انهاء مشاركة الولايات المتحدة في عمليات البلقان، وقبل يوم من الانتخابات، أعلن بوش نفسه، " دعوني اوضّح لكم قلقي من اشياء اخرى: انا قلق من الخصوم الذين يستخدمون مصطلح "بناء الدولة" و "القوات المسلحة" في جملة واحدة".

لكن هجوم سبتمبر 2011 ازاح كل هذا التردد جانبا، حيث اصبح التدخل العملي او "الحرب على الارهاب" واضحاً. الصفحة الاولى من استراتيجية بوش للامن القومي عام 2002 جادلت بان " التهديد الذي تواجهه امريكا من الدول القوية هو اقل من تهديد الدول الفاشلة. نحن لا نشعر بخطر كبير من الاساطيل والجيوش مقارنة بالخطر الذي تمثله التكنلوجيا الكارثية حين تقع في ايدي قلة من الساخطين".

الاجماع الجديد كان في كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي. سوزان رايس ممثلة السياسة الخارجية للديمقراطيين، كتبت، على سبيل المثال، عام 2003 بان بوش كان حكيما في توجيه الانتباه الى اهمية تهديد امننا القومي الذي تشكله الدول الفاشلة. المختصون في التنمية اعلنوا ايضا عن تأييدهم لهذا الاتجاه، بفضل الدراسات الجديدة التي سلطت الضوء على اهمية المؤسسات والحوكمة الجيدة للنجاح الاقتصادي الدائم. العالم السياسي فرنسيس فوكاياما، في كتابه عام 2004، "بناء الدولة"، كتب" الدول الضعيفة والفاشلة اصبحت المشكلة الوحيدة الاكثر اهمية في النظام العالمي".

وفي نفس السنة اكدت الصحافة الامريكية ان "الدول الضعيفة تشكل خطورة للامن- عبر توفير ملاذات آمنة للارهابيين وايضا عبر احتضان الجرائم المنظمة، وتدفق موجات المهاجرين، واضعاف الجهود الدولية للسيطرة على التهديدات البيئية والامراض". الاستنتاج كان، ان هذا الرأي"لم يعد مثاراً للخلاف". وبعد سنة، جادل كل من رئيس قسم تخطيط سياسة الدولة، ستيفن كراسنر، ومنسق الاستقرار واعادة البناء كارلوس باسكول، جادلا بانه" في عالم اليوم الشديد الترابط، تشكل الدول الفاشلة تهديداً للولايات المتحدة والامن العالمي. في الحقيقة، انها تمثل اعظم تحدي للسياسة الخارجية في الوقت الحاضر".

ومن زاوية معينة، يمكن النظر الى الخوف من الدول الضعيفة كاستجابة للظروف الحقيقية على الارض. لطالما انفجرت المشاكل في الاجزاء المضطربة من العالم النامي. ومع عدم وجود صراع مع قوة عظمى كاولوية عاجلة للامن القومي، فان تلك المشاكل كانت بارزة للعيان ومن الصعب تجاهلها. ومن زاوية اخرى، انها يمكن النظر اليها كموضة فكرية تقليدية انتشرت اجتماعيا عبر مقالات كبار المفكرين، ومن اهتمامات كبريات الصحف، وعدد من مؤسسات اللاربحية، ومشاريع مجموعة الخبراء (think-tank)، والحلقات المستديرة والمؤتمرات الصحفية.

ومن زاوية ثالثة، يمكن النظر للخوف من الدول الفاشلة كحل لقلق غير اعتيادي يواجه صناع السياسة الامريكية في هذا العصر: ماذا تعمل بفائض القوة القومية. الولايات المتحدة دخلت التسعينات بموقع دولي مهيمن وبدون وجود تهديد فوري. اعتناق دور عالمي امريكي مبسّط جداً استلزم اعادة تقييم اساسية للاجماع السائد في تفضيل استمرار الهيمنة، كان هناك نفر قليل في مؤسسة الامن القومي في امريكا وحولها مستعدين لدراسة مثل هذا الموضوع. بدلا من ذلك، خلقت تلك المؤسسة بوعي او بدونه منطقا جديد للتورط العالمي، تطلّب تطبيق القوة والنفوذ على قضايا كانت في اي وقت مضى ثانوية او هامشية. ومع عدم الشعور بالحاجة للتصدي لمنافس قوي او العديد من المنافسين و عدم وجود حروب كبرى تلوح في الافق، فان واشنطن وجدت سياسة خارجية جديدة تسمى: اعادة بناء الدول الفاشلة.

تقهقر القصة الاستراتيجية

مشكلة التعريف: ان التحديات العملية لمهام بناء الدولة الفاشلة يتم الاعتراف بها حاليا على نطاق واسع. انها تميل لتكون طويلة، صعبة، مكلفة، مع نجاح يستلزم تعهداً دائماً بمساعي فوضوية وعنيفة ومربكة– وهو ما لا يُحتمل الحفاظ عليه في عصر ميزانية التقشف. لكن العقد الاخير جلب للبلاد تحديات فكرية واجهت هذه الفكرة ايضا. التهديد الذي تشكله الدول الضعيفة والهشة، مثلا، اتضح انه اقل الحاحا واكثر تعقيدا وانتشارا مما اقتُرح في الاصل. مؤشر السياسات الخارجية للدول الفاشلة لعام 2013 لا يمثل بالضبط قائمة باولويات الامن القومي. من بين أعلى 20 دولة فاشلة، القليل جدا (افغانستان والعراق وباكستان) تتباهى باهمية جيوستراتيجية، وهي تقوم بهذا غالبا بسبب ارتباطاتها بالارهاب. ولكن حتى تهديد الارهاب لم يرتبط كثيرا بالقائمة الحالية للدول الفاشلة، فقط واحده من بين العشرين دولة، السودان، يبدو على قائمة الدول الداعمة للارهاب، وان معظم الدول الاخرى الضعيفة لديها فقط ارتباط هامشي بالارهاب في افضل الاحوال.

المشكلة الثانية: ان عدم وجود تعريف واضح للدولة الفاشلة يثير مشكلة ثانية. لا توجد هناك ابدا مجموعة منسجمة من العوامل لتعريف الدولة الفاشلة:العالم السياسي شارلس كول جادل عام 2008 بان المفهوم قاد الى "مجموعة من المعايير المتنوعة"عملت على اضفاء طابع متجانس على مشاكل متباينة تتطلب حلولاً مصممة". هذا الخلل الميثدولوجي الاساسي شوّه مهام بناء الدولة لسنوات، حينما فرضت القوى الخارجية حلولا عالمية عامة على سياقات شديدة التميز.

الاخطار المعينة لم تكن مقتصرة فقط على الدول الفاشلة، وايضا، لم تؤد حملات بناء الدول الفاشلة الى التخفيف من تلك الاخطار. لناخذ الارهاب، مثلا، نجد اكثر الارهابيين كفاءة ينتمون الى الطبقة الوسطى، وهم عادة من دول مثل السعودية، المانيا وبريطانيا، وليسوا فقراء من مواطني الدول الفاشلة. كما ان الجماعات الارهابية العاملة في الدول الفاشلة يمكن ان تنقل قواعدها العملياتية بسرعة: لو اصبحت أفغانستان شديدة الخطورة، هم يستطيعون الانتقال الى الصومال، اليمن وحتى الى اوربا. وبالتالي فان، "إحداث الاستقرار" في ثلاثة او اربعة مصادر للعنف المتطرف سوف لن يجعل الولايات المتحدة آمنة. ونفس الشيء يقال على التهديدات الاخرى مثل الجريمة المنظمة التي تجد بلدان مريحة للعمل بها لكنها دول مضطربة كما في اسيا وشرق اوربا وامريكا اللاتينية.

الباحث ستيوارت باتريك لاحظ عام 2006 في فحصه لصورة التهديدات الصادرة من الدول الضعيفة، "الملفت هو مدى ضعف الدليل التجريبي المؤطر لهذه الادعاءات وما اعقبها من تطورات سياسية. المحللون وصناع السياسة افترضوا وجود ارتباط وثيق بين ضعف الدولة وتهديدات الامن القومي للدول المتطورة، وبدأوا بتقديم المشورة وتنفيذ ردود فعل السياسة".

وعلى الرغم من ان الترابط والاعتمادية المتبادلة قد يخلقان مخاطر معينة، لكن الاخطار في عالم كهذا من المرجح جدا ان تأتي من دول قوية محكومة جيدا بقوانين غير تامة بدلا من ان تأتي من دول ضعيفة تعاني من عجز في الحكم. التقلبات المالية التي يمكنها ان تهز اسس الامم المتقدمة والهجمات الالكترونية التي يمكنها شل شبكة المعلومات تشكل مخاطر اكثر الحاحاً وديمومةً من الارهاب.

المشكلة الثالثة: هي الثقة الخاطئة في امكانية تحقيق المهمة. العقد الاخير وفر تذكيراً واسعاً ومأساويا بحقيقة ان فرض بناء الدولة الفاشلة لا يمكن انجازه بواسطة دول الخارج في اي مقدار من الطرق المستديمة والموثوقة. عندما يصبح النظام الاجتماعي غير منسجم مع العالم المعولم- اي حينما تصبح المؤسسات الحاكمة ضعيفة، شخصانية، تعمل لإثراء الطبقة الحاكمة، سيكون الفساد هو السائد، وسيغيب حكم القانون- لا توجد هناك طرق مؤهلة لخلق تغيرات ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية وبالسرعة المناسبة.

وكما يرى العالم السياسي الاسترالي ميشل ويزلي في مقالة رائعة له عام 2008، ان ضعف الدولة هو بالاساس مشكلة سياسية، وان بناء الدول عادة يُتصور وينفذ كما لو كان تمريناً سياسياً. " ان محاولة الانعزال عن السياسة والتركيز على الاصلاحات التكنوقراطية اثبتت عدم واقعيتها". وكتب ايضا"حتى المهمات التكنوقراطية في ما يبدو تواجه المديرين الدوليين بقرارات سياسية ضرورية: طبيعة واساس الانتخابات، التي تسترشد بها جماعات الضغط، اعادة التكامل او الفصل الواقعي (وان كان غير قانوني) بين الجماعات العرقية، مناهج المدارس، درجة ملكية الجمهور للمشاريع، مكانة المرأة، وما شابه. مع ذلك، فان بعثات بناء الدول الفاشلة، حين تعتمد الاليات التكنوقراطية في اهدافها ستجد نفسها حتما جزءا من لعبة المنافسات المحلية".

ان اي محاولة لفرض التغيير كرهاً على المجتمعات والحكومات، سيجعل التدخلات الخارجية تضعف الحوافز الداخلية للاصلاح وذلك عبر نقل المسؤولية عن مستقبل افضل من القادة المحليين الى اللاعبين الخارجيين. قوة الخارج تحتاج للتعاون مع زبائنها المحليين اكثر من حاجتها الى دعمهم المالي. النتيجة من كل ذلك هي مازق التبعية الذي يعوق الاصلاح. وكما تبيّن قصص النجاح من جنوب كوريا الى شيلي، فان السير من ضعف الدولة الى القوة لا بد ان يُسلك من الدول ذاتها، تدريجيا وتناسبيا، على الاغلب تحت نفوذ قيادة قوية وحاسمة من حكام متخصصين ذوي بصيرة. انها عمليات طبيعية، تنطلق من الناس العاديين، يجب ان تحترم السياقات الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية المتميزة لكل بلد. وعلى الرغم من ان تلك العمليات بالإمكان دعمها ولو بشكل متواضع بضغط ومساهمات الخارج، الا انها لا يمكن فرضها قسراً.

المشكلة الرابعة: المتعلقة بهاجس بناء الدول هو انها شوهت الهدف الرئيسي للولايات المتحدة ودورها في السياسة الدولية. منذ الحرب العالمية الثانية، عملت الولايات المتحدة بقوة لضمان استقرار النظام الدولي. هي قامت بهذا عبر تشكيل تحالفات عسكرية لحماية اصدقائها وردع الاعداء، وذلك عبر العمل على بناء هيكل عالمي للتجارة والتمويل، وحماية الموارد الطبيعية العالمية. هذه الافعال ساعدت في دعم نظام مترابط للدول تكون فيه مصالحها الدائمة هي في الاستقرار وليس في الاحتلال.

ان الممارسة الجيدة لهذا الدور تتطلب اهتماماً دائماً في جميع مستويات الحكومة، جزئيا لإنشاء العلاقات الضرورية لإدارة الازمات، وفي المجال الدبلوماسي، والتعاون المتعدد الاطراف بجميع انواعه. في الحقيقة، ان الخطر الكبير على النظام الدولي اليوم هو الخوف من ان يتعرض الى العديد من اسباب التنافس وعدم الثقة، بما يجعله يتشظى الى فوضى جيوسياسية. ان تجربة الولايات المتحدة منذ التسعينات، والادلة الواضحة من شمال شرق اسيا، تقترح ان عصر ما بعد الحرب الباردة المستقر نسبيا لو تحول الى منافسات داخلية بين الدول، فذلك سوف لن يكون نتيجة للدول الضعيفة وانما بسبب تصاعد الطموحات الاقليمية، والذكريات التاريخية المريرة، وانتعاش القوميات في الدول الشديدة التنافس. لذلك ان دور الولايات المتحدة في مواجهة النزعات الواسعة للتفكك المنهجي سيكون حاسماً. الولايات المتحدة هي القطب الحيوي في التحالفات والشبكات الرئيسية، انها توفر القيادة والقوة الجذابة للعديد من المساعي الدبلوماسية العالمية، وان موقعها العسكري المهيمن يساعد في استبعاد افكار القمع في العديد من الاصقاع.

ان هاجس الدول الضعيفة صرف الانتباه بعيدا عن مثل هذه الممارسات وجعل عودة التهديدات التقليدية اكثر احتمالا. التركيز على اثنين من الحروب التي لا تبدو لها نهاية وعلى ستة "عمليات استقرار"اخرى محتملة أضعف حضور الولايات المتحدة العالمي، وأثر سلبا على الفعالية الدبلوماسية للولايات المتحدة، وصرف انظار المسؤولين الامريكيين عن الاستجابة الملائمة للتغيرات في المسرح الدولي.

عندما يقرأ احد مذكرات مسؤولي ادارة بوش، فان القضايا العالمية الرئيسية التي تتجاوز افغانستان والعراق، "والحرب على الارهاب"بدأت تبدو كضوضاء خلفية. يبدو ان كبار مسؤولي الولايات المتحدة صرفوا وقتا طويلا بين الاعوام 2003 و 2011، على سبيل المثال، يديرون الفوضى المزعجة للسياسة العراقية بدلا من الميل لعلاقات مع قوى دولية رئيسية. ونتيجة لذلك، صرف كبار المسؤولين الامريكيين القليل من الوقت في تربية وصقل قادة الدول الاقليمية الصاعدة، من البرازيل الى الهند وحتى تركيا. احيانا، افعال الولايات المتحدة او متطلبات مغامرات بناء الدول أضعفت بشكل مباشر علاقات مهمة اخرى او مبادرات دبلوماسية، كما حصل حين واجهت واشنطن ردود الفعل السياسية الدولية لحرب العراق.

مثل هذا المأزق يعكس السمة المميزة لعصر بناء الدولة: القضايا الثانوية اصبحت هي المسيطرة. واذا كنا منصفين، هذا يعود جزئيا الى مساوئ العولمة، والتغطيات الاعلامية الحالية على مدار الساعة تدفع مشاكل العالم بقوة الى جدول الاعمال اليومية للقادة القوميين. وبالتزامن مع التصور الذاتي للولايات المتحدة كدولة لا غنى عنها، هذا الوعي الفضولي خلق ضغطا سياسيا للتصرف في قضايا ذات اهمية محدودة لمصالح الولايات المتحدة الرئيسية. مع ذلك، كان هذا بالضبط هو المشكلة: حيث ان انطباع الولايات المتحدة عن التهديدات العالمية ومسؤولية الدولة في معالجتها اصبح سيئا وربما انحرف او تشوه بشكل دائم. احتياطي القوى الكبرى من الحضور الاستراتيجي ليس بلا نهاية. وان الولايات المتحدة اصبحت عرجاء جيوسياسيا، وهي تبدو غير مهتمة بالمبادرات الاستراتيجية الكبرى او بالدبلوماسية العابرة، لأن اهتمامها باستمرار يقفز من كارثة الى اخرى.

المشكلة الخامسة: انبثقت مباشرة من المشكلة الرابعة. لكي تمارس الولايات المتحدة دورها في الاستقرار العالمي، فهي تحتاج الى قوات عسكرية مصممة بشكل مناسب ومدربة ومجهزة – تستطيع الانتشار عالميا، والانخراط في الصراعات الطارئة المعقدة، بحيث تكون قادرة على توجيه ضربات سريعة بعيدة المدى وممارسة امكانات الردع، وبناء ومساعدة القدرات المحلية للشركاء. مهمة بناء الدولة اساءت وشوهت المهام العملياتية والتدريب والتجهيز، وافسدت الانطباع الذاتي عن الجيش الامريكي وبطرق انصرف بها عن اداء هذه المسؤوليات.

اغلب القوات العسكرية الامريكية امضت عقدا في التركيز على بناء الدولة ومكافحة العصابات، خصوصا في تدريباتها وعقيدتها، مهملة جزئيا المهام الاكثر تقليدية. استثمارات هائلة ذهبت الى التجهيزات المتصلة بمكافحة المتمردين، مثل العربات المصممة لحماية القوات الامريكية من العبوات الناسفة، التي استهلكت بلايين الدولارات من الموارد الاخرى للامن القومي. محصلة هذه الخيارات كانت إضعاف قدرة الولايات المتحدة العسكرية على لعب دور جيوستراتيجي اكثر اهمية. من بين متطلبات العمل التعبوي، هو القدرة على المناورة والاستبدال بين الاوضاع الهجومية. ان التحول في عمليات التدريب للتركيز على محاربة المتمردين، جعل القوات العسكرية الامريكية، خاصة القوات البرية، تفقد الكثير من مهاراتها العالية في ادارة العمليات العسكرية واسعة النطاق. وببساطة، الجيش سيكون بوضع افضل اليوم، وذو ادوار هامة ضمن القوة الامريكية، واحسن تدريبا لمهماته التقليدية، واحسن تجهيزا في فترات التقشف – لو لم يحصل انحراف في بناء الدول الفاشلة.

نموذج بديل

كل ما تقدم لا يعني ان القلق من المشاكل التي تشكلها الدول الفاشلة ستختفي او بالإمكان ان تختفي كليا من السياسة الخارجية الامريكية ومن جدول اعمال الامن القومي. مكافحة الارهاب والمهام المتصلة به بالتاكيد ستبقى هامة، خاصة في الشرق الاوسط الكبير- بما فيه افغانستان بعد 2014- حيث ستكون للاضطرابات الداخلية نتائج خارجية تتطلب بعض الاستجابات من واشنطن. المؤسسات المحلية الفعالة تساهم فعلا في الاستقرار والنمو، والولايات المتحدة يجب ان تقوم بما هو ممكن لتسريع ذلك. هناك فرق في الاولوية التي تمنحها واشنطن لمثل هذه الجهود. في دليل الدفاع الاستراتيجي لشهر جنوري 2012، مثلا، جسّد الانطباع بان القوات الامريكية لم تعد تُوجّه للقيام بعمليات واسعة النطاق، او عمليات استقرار طويلة وأعلن عن النية في اعتماد اتجاه ابتكاري، واطئ الكلفة وخفيف الوزن لانجاز الاهداف. ومؤخرا، ذهب نائب رئيس هيئة الاركان المشتركة الادميرال جيمس ساندي أبعد من ذلك بالقول"انا ببساطة لا اعرف ما اذا كانت مصالحنا الأمنية لبلدنا مهددة بما يكفي لتجعلنا نقود حملة كبيرة اخرى لمكافحة الارهاب".

في المستقبل، يُحتمل ان تثق الولايات المتحدة قليلا بالخطط العسكرية الحاسمة والشاملة وستعتمد بدلا من ذلك على الجاهزية المحلية، مستبدلةً الحماسة العاجلة بحماية ذاتية دفاعية. هذا سيكون صائبا، لأن افضل الردود على الخطر الكامن في عصر الترابط والفوضى هو المرونة المحلية: تحصين وتنقية شبكات المعلومات والطاقة، التأكيد على الكفاية الذاتية الاقليمية او المحلية لتقليل التأثيرات المتتالية للصدمات المنهجية، تحسين الطوارئ المحلية- وتعزيز قدرات حماية المعلومات الالكترونية، استثمارات كافية في الاستجابة للاوبئة، وما شاكل. وبنفس القدر من الاهمية هي المرونة الفكرية، في التعامل مع الاضطرابات كحتمية بدلا من ان تكون فاجعة، ومقاومة الرغبة في المبالغة. في هذا المعنى، رد الفعل العالمي للتصاعد الاخير في القرصنة- هو في جزء منه نتاج انظمة الحكم الفقيرة في دول افريقيا- يجب ان يُتخذ كنموذج: ليس كنموذج مهمات بناء الدولة، وانما عبر تسليح وحماية السفن المعرضة للمخاطرة.

في التعامل مع الدول الضعيفة، يجب على الولايات المتحدة الوثوق بالتقدم التدريجي من خلال علاقات دعم واستشارات صبورة وطويلة الامد، مرتكزة على فعاليات مثل مساعدات اقتصادية مباشرة مصممة وفق متطلبات الحاجات المحلية، التدريب، وبرامج اخرى لتطوير القابليات الانسانية، روابط عسكرية متبادلة، سياسات تجارية واستثمار. علاوة على ذلك، يجب ان يكون الشعارهو الصبر والتدرج وردود الافعال الملائمة: تعزيز الحكومات من خلال مختلف انواع النماذج المنسجمة مع الانماط والحاجات المحلية، مقترنة بالدعم ووسائل الاستشارة.

ومع استمرار الدول الفاشلة في خلقها لتهديدات معينة، مثل الارهاب، فان الولايات المتحدة لديها عدد من الوسائل المحدودة للتخفيف منها. هي تستطيع، مثلا، اعادة الارهاب لمكانه المناسب كقانون فرض المهمات، وتستمر بالعمل المشترك مع وكالات تعزيز القانون الاجنبي. انها تستطيع تدريب وتطوير مثل هذه الوكالات بالاضافة الى القوات العسكرية المحلية، لتقود المعارك. وعند الضرورة، يمكن استخدام ادوات قمعية محددة – عمليات سرية واعمال مخابرات كلاسيكية، غارات تنفذها قوات خاصة، وهجمات عن بعد منتقاة جيدا- للتعامل مع تهديدات معينة، بالتنسيق مع القوات العسكرية للحلفاء المحليين.

البعض قد يجادل بان مسؤولي الولايات المتحدة لا يمكنهم ابدا التخلي عن حملات بناء الدول لأن الاحداث ربما تجبرها للعودة مرة اخرى الى تلك الحملات. اذا كانت القاعدة تنوي شن هجوم خُطط له في معاقل طالبان في افغانستان لما بعد 2014، او لو ان تشرذم وتطرف المجتمع الباكستاني وضع السلاح النووي في موقف خطير، فان البعض ينصح بالعودة الى سياسة التدخل لبناء الدول. ولكن بعد التجربة الاخيرة للولايات المتحدة، من المشكوك فيه ان تلقى تلك الدعوات اذنا صاغية.

ان فكرة المهمة الامبريالية الجديدة لتقوية الدول الضعيفة واحداث الاستقرار في المجتمعات المشوشة دائما تصطدم بالادوار الامريكية العالمية الاكثر اهمية وبالآليات الواقعية للتغيير الاجتماعي. هناك القليل من العمل ينبغي القيام به في هذا السياق، ولكن بطرق اكثر تحفظا وتميزا. التغيير في الرسالة الحضارية سوف يجعل بالامكان تبني ستراتيجية للامن القومي اكثر فعالية واستمرارا، بما يسمح للولايات المتحدة في الانصراف للادوار والمهام التي تعني الكثير للامن والسلام الطويلن الاجل. احدى منافع هذا التغيير، سيكون السماح لمؤسسات التنمية المحلية لتعمل بمنهجية ومصداقية اكثر، وبوتيرة وطرق خاصة بها. ان الفكرة الجديدة هذه ستعكس مواجهة بسيطة مع الواقع بعد عقد من الاضطراب والتشويش.

..........................................

The Rise and Fall of the Failed-State Paradigm، الشؤون الخارجية Foreign Affairs، عدد (Jan/Feb)، 2014.

الكاتب Michael J. Mazarr بروفيسور في ستراتيجية الامن القومي في كلية الحرب القومية.

الهوامش

(1) لا يوجد هناك اجماع عام على تعريف الدولة الفاشلة، وطبقا لتعريف مؤسسة (fund for peace) يُستعمل تعبير الدولة الفاشلة اذا توفرت في الدولة الخصائص التالية:

- فقدان السيطرة على اقاليمها او على احتكار شرعية استعمال القوة المادية.

- تآكل السلطة الشرعية المطلوبة لاتخاذ قرارات جماعية.

- عدم المقدرة على تقديم الخدمات العامة.

- عدم القدرة على التفاعل مع الدول الاخرى كعضو تام في المجموعة الدولية.

مختلف الوكالات الحكومية والخبراء يستعملون مؤشراتهم الخاصة عن الدولة الفاشلة الامر الذي يقود الى فهم غامض للمصطلح. الباحث السياسي شارلس كول يرفض مفهوم الدولة الفاشلة لأنه يرى انه يكرس فهماً غير واضح لما يعنيه فشل الدولة. باحثون آخرون مثل وليم ايسترلي انتقد الفكرة باعتبارها اعتباطية، ليس لها تعريف متماسك وتخدم فقط الاهداف السياسية للدول الغربية في خطط التدخل العسكري في شؤون الدول الاخرى.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 6/شباط/2014 - 5/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م