الكتاب، الحضارة، الإنسان

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: "القراءة ضرورية للحياة كالتنفس" ألبرتو مانغويل-، في لحظات يتطاير كل شيء اثر عاصفة هوجاء تضرب المدينة، كل الأشياء تتطاير، حتى الناس والحيوانات والمنازل تقذف بها العاصفة بعيدا..

البداية مع شاب تبدو عليه الطيبة المضيئة، انه جالس على كرسي في باحة المنزل الامامية، عيناه على كتاب مفتوح في احضانه، حوله الكثير من الكتب المتنوعة، تعرف ذلك من الوان اغلفتها، وكأنها تشير الى هذا التنوع الكبير للبشر وافكارهم واذواقهم..

العاصفة في هبوبها المزمجر لا تستثني هذا الشاب القارئ من هيجانها، تتطاير كتبه مثلما هو تتلاعب به الريح، حتى احرف الكتب تتطاير من حوله، انه يحاول الإمساك باي شيء، بيد واحدة، والأخرى تتمسك بكتابه بشدة، الريح تزمجر وتزداد سرعتها، لا تكفي يد واحدة للثبات في لحظات الترنح، يترك كتابه يطير منه، ويمسك بأسنانه حبلا يتطوح في الريح العاصفة..

هدأ كل شيء الان، يسقط الشاب القارئ على الأرض، البيوت مقلوبة رأسا على عقب، هو يصبح في المشهد بلونين ابيض وأسود، تغادره الوانه الجميلة، يأخذ جولة في مدينته، الخراب بلونين الأبيض والأسود، لا حياة في مدينته الان..

على غير هدى يسير بجانب حاجز خشبي، في الجهة المقابلة وكأنها مدينة أخرى، الخضرة تنتشر على مساحة واسعة، ثم فتاة تطير في الهواء، لكن ملابسها ملونة، ومعها عدد من البالونات الفرحة، ترمي اليه بكتاب ينتصب امامه، أوراقه تكلمه وتطلب منه عبور الحاجز الخشبي..

يتبع نظره، بيت كبير في وسط تلك الخضرة البهيجة، بمجرد ان يطأ عتبته تعود اليه الألوان التي كان عليها، مئات الكتب على الرفوف، ترقص امامه فرحة بوجوده.

ثمة كتاب كبير على الرف، يحاول النزول اليه، لا يقدر على ذلك، فاقدامه عاجزة عن حمله، يحثه على النزول بين يديه، لكن أوراقه تتطاير وتتبعثر بمجرد تركه الرف، يضعه على الطاولة، وجميع الكتب في القاعة تراقبه.

كأي طبيب يضع سماعة في اذنه لفحص نبضات الكتاب.. لا أثر للحياة فيه، قلبه توقف عن النبض، يشير الكتاب الذي حفزه على القفز والعبور عبر الحاجز ان يقرأ من كلمات هذا الكتاب الراقد جثة هامدة، يفعل ذلك، ينبض قلبه ببطء، ويتصاعد حين يستمر بالقراءة، تعود الحياة اليه، وينهض حيا من جديد..

يشرع الشاب القارئ بالكتابة كل يوم، يخرج أفكاره من رأسه، تأخذ الوان مدينته بالتغير تدريجيا وتكتسي بالوانه السابقة، انه يعيد بناء الحياة وتشكيلها من جديد.

تلك الأفكار يطرحها فلم انيميشن قصير، وهو من انتاج فرنسي، يتحدث عن الكتاب والثقافة والحضارة، بلغة بسيطة دون كلمات، يشير الى قدرة الأفكار على انتاج الثقافة والحضارة ودور الانسان في ذلك، من خلال نشرها على الناس عن طريق الكتاب..

كل لقطة في الفلم هي فكرة دالة ومعبرة.

الانسان في شبابه حماس ممتلئ بالرغبة في التغيير، القراءة ضرورة حياتية لهذا الشاب، فهي تجعله متصالحا مع نفسه ومحيطه، وتضفي على حياته الكثير من الألوان والاضواء والمفاجآت، وهو بكل خبراته التي اكتسبها من الكتب التي قرأها يستطيع ان يعيد بناء الأشياء وترميمها..

العاصفة الهوجاء ترمز لكل ما من شأنه ان يدمر ويحطم منجزات الانسان الحضارية والثقافية، كالحروب والعنف والكوارث الطبيعية، لكنها لا تستطيع تحطيم عقله او القدرة على الابداع لديه..

الحاجز الخشبي تعبير عن حواجز الحياة والمجتمع، لكنه يتوفر على الإرادة التي تجعله يقفز على هذه الحواجز ويعبرها الى الجانب الاخر..

الإنتاج المعرفي للإنسان المفكر، يمكن أن يموت ويندثر اذا لم يطلع عليه الاخرون، ويشاركوه فيه، حاله حال كل فكرة تبقى حبيسة في الصدور..

الأفكار بحاجة لمن يحملها ويروّج لها، لا يكون ذلك الا عن طريق الكتابة، والتي بمجموعها تؤلف كتبا يقرؤها الجميع..

خلق الانسان ليكون قارئا في الكون، ولا حياة دون كتاب وقراءة ما مكتوب فيه..

لا يمكن للمجتمعات ان تتغير دون أن تغير من طبيعة حياتها وسلوكها اليومي، في التعامل مع الأفكار المنتجة للثقافة، التي تعيد صياغة الفهم للحياة والانسان والكون..

كمجتمعات عربية ومسلمة، لا يشكل الكتاب والمعرفة هاجسا مؤرقا لدى اغلبيتها، تلك الأغلبية المندفعة نحو حاجاتها الغريزية والاستهلاكية، التي افقدتها الرشد الفكري والاتزان النفسي والمعنوي..

نتراجع يوما بعد يوم في ترتيب مشاركتنا في بناء العالم، وتتراجع مع ذلك الكثير من حقوقنا وحرياتنا لجهلنا بكيفية الوصول إليها والمحافظة عليها..

مجتمع لا يقرأ هو مجتمع فاسد آسن، يحيط به العفن من جميع الجهات..

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 5/شباط/2014 - 4/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م