شباب اليوم وجسور الفهم المهددة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: ربما يتصور البعض إن شريحة الشباب في المجتمع، همّها ينحصر في طريقين: الاول؛ تحصيل العلم في المدرسة ثم الجامعة، لحيازة الشهادة الجامعية المؤهلة لفرصة عمل جيدة، ومن ضمان مورد مالي مطمئن، وايضاً توفير الآمان للقادم من المستقبل.

أما الطريق الثاني؛ فهو الولوج مباشرة في سوق الاعمال والمال، لمن تتوفر له شروط المهنة والتجربة. لذا فهو في شغل عن المطالعة والبحث والاستنتاج، يتقبل أي فكرة أو إثارة في الساحة الثقافية، لتكون له تقليداً أو قناعة أو هوية أو أي مفردة من مفردات المنظومة الثقافية، وهم في ذلك يتجنون على هذه الشريحة الوادعة والرقيقة في تكوينها الذهني والمعنوي وحتى المادي، وربما من حيث لا يشعرون، يجردون هؤلاء من حق الفهم الكامل للحقائق، وتحويلهم الى ما يشبه "السبورة" المدرسية التي يكتب على أي شيء، ثم سرعان ما يُمحى منه كل شيء!.

صحيح، إن الشباب – بنين وبناتاً- ، في المراحل العمرية التي تتراوح بين السادسة عشر والخامسة والعشرين من الجنسين، هم في طور التعلّم والتعرّف، وهذا يعني ضرورة تشييد أو تشديد أواصر العلاقة  بين مصادر العلم والمعرفة والثقافة، وبين هذه الشريحة، من خلال الثقة والاحترام المتبادل واستقبال الآراء والملاحظات والاستفسارات بصدر رحب وبشاشة وجه من قبل النخبة الواعية والمثقفة، وهذا ما تفتقر اليه مراكزنا التعليمية ومؤسساتنا الثقافية الى حدٍ ما، وإن وجدت فهي بحاجة الى تكثيف وتركيز لمزيد من النتائج تتمثل في جيل معطاء، ذو وعي وثقافة عالية. يفكر في بناء مجتمعه وأمته، قبل ان يفكر في رسم خارطة الطريق لتحقيق أحلامه ومصالحه الخاصة.

المدرسة.. العلم دون الفهم

إنها ليست مشكلة هذا البلد او ذاك بعينه، إنما هي مشكلة ربما تعاني منها معظم بلادنا التي لم تصل الى درجة البلاد النامية، فالطالب يخوض صراعاً مريراً مع المنهج الدراسي في شقيه؛ العلمي والأدبي لينتصر عليه ويحصل منه على الدرجة العالية، لا أن يعيش معها علاقة حب وتفاني وتضحية، فهو يدرس ويجتهد، ليس خوفاً ولا طمعاً بالعلم والمعرفة، إنما لمعرفته وايمانه بأهميته الحضارية وحاجة المجتمع والأمة اليها، وهو في ذلك، سيكون المؤتمن عليه. وهذا لن يتحقق إلا اذا فتحت ابواب الفهم على الطالب، ومعروف أن أهم خطوة نحو الفهم، السؤال.. فرفع الطالب اصبعه داخل الصف للسؤال، يجب أن يكون مدعاةً للسرور والارتياح للمدرس، لأن الطالب هنا رفع خطوة بالمقابل، ولم يبق هو وحده من يخطو الى الامام والطلاب متفرجون، أو ينتظرون سؤال المدرس.

ومن المؤكد، فان هكذا مطلب يثير الاعتراض لدى الكثير ممن يقرأ الحديث، لاسيما الكادر التدريسي، بحجة تراكم الأزمات والمشاكل التي تجعل من هكذا مطلب في الاوضاع الراهنة، بمنزلة نوع من "الدلال" او المجاملة التي هم في شغل عنها، بينما الحقيقة المرّة التي لا يمكن حجبها، هي لجوء شريحة واسعة من الطلاب الى "التدريس الخصوصي" ليجدوا هنالك ضالتهم في "الفهم" وهضم المادة الدراسية. ولو أننا لسنا بوارد مناقشة هذه الظاهرة، ومنشأها وآثارها على مسيرة التعليم، وسلبياتها على الوضع الاقتصادي للأسرة. بيد انه مثلٌ بارز على حاجة الطالب للفهم والاستيعاب، لاسيما عندما يكون أمام هاجس الرسوب أو الحصول على معدلات هابطة تطيح بطموحاته وآماله، والقبول بالأدنى من النتائج.

ولعل بعض المتابعين والمعنيين يعذرون الكادر التدريسي، لعدم قدرته على استيعاب الحصص الدراسية المتعددة في اليوم  الواحد، مع العدد الهائل من الطلاب، بسبب قلّة الكادر التدريسي، حتى إن وجد المدرس والاستاذ الحريص والمخلص، لكن يبقى المطلب من حيث المبدأ لا مراء فيه، فالسنة الدراسية مؤلفة من حوالي ستة أشهر مع احتساب فترات الامتحانات وغيرها، وهي فترة تتخللها ايام فتور او ربما "درسٌ شاغر" او  غير ذلك، مما يمكن الاستفادة منه لإثارة الكثير من الاسئلة والاستفسارات من الطلبة، لمن لديه مسألة علمية غامضة او درس لم يفهمه من قبل، بإمكانه تسجيله في دفتر خاص، وإثارته في الوقت المناسب. هكذا أجواء تمثل بالحقيقة هدية ثمينة لذلك الطالب الطامح والمجد الذي يبحث عن طريق لتحصيل العلم بعيداً عن الشد العصبي والاضطراب والقلق.

وينقل من بعض المدارس الاعدادية مشاهد لا تمت بصِلة الى التعليم والتربية، فالطالب هناك، ليس فقط يواجه الرفض والامتعاض من السؤال، إنما يسمع توجيهاً من المدرس بأن الافضل له اتخاذ مدرس خاص له خارج الدوام..!. او "ليفهموكم آباءكم أو أمهاتكم"..!!. الامر الذي يرفع أكثر من علامة استفهام عن السبب الحقيقي وراء هكذا مواقف وسلوكيات من بعض التدريسيين، رغم الظروف المعيشية الجيدة التي يحظون بها، ومثالنا في ذلك، العراق. او ربما في أحسن الاحوال يكون الطالب مجبراً بشكل غير مباشر لأن يطرق أبواب المدرسين الخصوصيين، أسوة بسائر أقرانه من الطلبة، ليشكلوا ليلاً حصة دراسية عالية المستوى توفر الفهم والاستيعاب بشكل افضل، بشرط الدفع الأكثر!.

مؤسساتنا الدينية.. التشدد

الصرح الآخر الذي يجد الشاب والشابة أنه بحاجة الى فتح نافذة الاسئلة فيه، هي مؤسساتنا الدينية التي ترعاها بالدرجة الاولى الحوزات العلمية. وهنا القضية لا تتعلق بالعلوم الاكاديمية – المادية، إنما بالمسائل المعنوية وتتعلق بالعقائد والتاريخ والاحكام ومجمل الثقافة الدينية، التي لا تقل اهمية عن العلوم الاكاديمية. ولمن يلاحظ التخبّط والتشظي في العالم الاسلامي وعلى صعيد شعوب المنطقة، يجد ان ضياع الهوية وتعدد القراءات والقناعات في المذهب والاتجاه الواحد، احد أهم اسباب المشاكل التي تواجهها الشعوب، لاسيما في مسيرة التغيير والإصلاح، الامر يفترض وجود وعي عميق وشامل بالحاجة الى فتح أبواب الفهم والاستيعاب على مصراعيها لجيل الشباب، وإضاءة جميع الزوايا المظلمة بما يتوفر من نصوص دينية محكمة وأدلة عقلية ونقلية ومنطقية وردت في القرآن الكريم وسيرة المعصومين عليهم السلام.

هنالك الكثير، الكثير من الأسئلة والاستفهامات تتعلق بالأحكام الدينية، وهي جد ضرورية للشباب من الجنسين، وهي بحاجة الى أجوبة شافية ومحددة لا لبس فيها، كما يجب أن تتوفر فيها المرونة والمعايشة مع الوضع القائم، لاسيما وأن عديد الفقهاء ومراجع الدين يؤكدون الى أن "الدين"، بالأساس هو سهل يسير، وقد سهّل الله تعالى، واستجابة لطلب نبيه الأكرم محمد، صلى الله عليه وآله، الكثير من الواجبات والفرائض، مثل الصلاة التي كانت (52) ركعة، فتحولت الى (17) بطلب من النبي، وغيرها، وهنالك قاعدة في علم الفقه تقول: "الاحكام تُدرأ بالشبهات"، بمعنى أنه ليس بالضرورة كل حدث يستلزم تنفيذ الحكم، فربما يكون شبهة او امراً غير مؤكد.

ولا ننسى أن الوعي الكامل من المؤسسة الدينية بالمرحلة  الراهنة، هو الذي يجعل الصدور واسعة، رحبة، تسع جميع التساؤلات والاستفهامات لإزالة الغموض في أجواء وظروف معقدة تعيشها شعوبنا في الوقت الحاضر، وغير هذا، لنتخيل غموض الأفق السياسي والتأزم الاقتصادي والاجتماعي، ثم يأتي علاوة عليه، الغموض في الاحكام الدينية أو التناقضات والتجاذبات بين هذا وذاك، فما الذي سيحصل..؟!

في مقابل هذين الخيارين أمام شباب اليوم، هنالك خيار ثالث: وهي مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالتنمية والتربية والتثقيف، وهي تعمل بشكل مستقل، لا تعتمد في ادارتها الى جهات حكومية أو فئوية. وهذه تأخذ على عاتقها إنارة الطريق أمام الشباب المتعلّم والطموح، ففي دورات او معاهد او ورش عمل، يجد الكثير من  الشباب ضالتهم في التعرّف على عديد الافكار والرؤى بما يجيب على كثير من التساؤلات حول مسائل كثيرة، فاضافة الى العقائد والاحكام والتاريخ والسيرة، هنالك السلوك والعادات والآداب والاخلاق وحتى الأذواق، التي يبحثون عن معايير لها تحدد مسار حياتهم. فلماذا هذا حسن وذاك سيئ...؟ وكيف يكون هذا مفيداً وذاك غير مفيد..؟. وما هي الدلائل على ذلك..؟.

العديد من المهتمين بالشأن الثقافي في مجتمعاتنا يجدون في هكذا مؤسسات، واحة خضراء يستنشق الشباب فيها نسيم العلم والمعرفة، ويكتشف فيها ذاته ويعرف انه حقاً ذو قيمة في المجتمع، وعنصر فاعل وضروري في المستقبل. إذن؛ هي ضرورة حضارية ملحّة لخلق حالة من الوعي والتحرك  نحو النضج والإثراء، تحت نضمن مستقبلاً يبعد الشباب عن التطرّف والتشدد والضياع في زحمة الافكار والرؤى والمؤثرات الخارجية. وفي خطوة تقدمية اخرى، يكون التفكير منصبّاً نحو الابداع والتفكير في البناء والتغيير نحو الأحسن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 4/شباط/2014 - 3/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م