سعة الصدر.. ضمان نجاح الديمقراطية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: "السَّعَة" في اللغة، تشير الى مفردات مثل: الانبساط والكثرة والاستيعاب، وتتفق كلها – كما في قواميس اللغة- في التعارض مع "الضيق". ولأن القلب، من جملة الاشياء التي يقع عليها "السَّعة"، فانها تفيد العلاقات بين بني البشر لما يمتلكونه من فطرة سليمة مُحبة للخير والحق والفضيلة، بل هي كالماء الزلال الذي ينساب على الأرض الخصبة. والفطرة الانسانية السليمة، هي الاخرى أرضية خصبة بحاجة الى إرواء لتعشوشب وتثمر بالاخلاق الحميدة والصفات النبيلة.

 وطالما أكدت النصوص الدينية على أهمية "سعة الصدر" كأحد شروط النجاح في العلاقات الاجتماعية، وتزداد الحاجة اليها في العلاقات بين المجتمع والأمة، وبين المسؤول أو القائد، فيكون النجاح ذو أهمية بعيدة المدى، لانه سيخلق أجواء الانبساط والأريحية والتعاطي السمح بين القائد والجماهير، ويساعد النظام الحاكم لأن يكون أكثر "ديمقراطيةً" – إن صحّ التعبير- كما يسهم في بناء جسور الثقة بين الهرم والقاعدة، لذا نجد أبرز عامل يصدّع العلاقة بين الهرم والقاعدة، هو الحالة المناقضة لـ "سعة الصدر". من قبيل غلق الابواب بوجه الاعتراض والكلام والرأي الآخر. من هنا جاء التأكيد من الامام علي عليه السلام، على هذه الخصلة وسمّاها بالإسم في قوله: "آلة الرئاسة سعة الصدر".

هواجس الضعف

هناك البعض من المتبوئين مناصب او مسؤوليات حكومية أو حتى في مشاريع عمل مختلفة، يعدون الحديث عن مفردات مثل: الانبساط، والاستيعاب، من دواعي الضعف والهشاشة في ادارة العمل أو في سياسة العباد والبلاد، إذ يجدون في الغلظة والشدّة والتضييق، اساليب مجدية تحاكي الواقع – كما يتصور البعض- وهم في ذلك ليس فقط يبعدون انفسهم عن احد أهم شروط النجاح، إنما يكرّسون الواقع الخاطئ في المجتمع. لنأخذ - مثلاً- المشورة؛ فاذا كان الغالب والسائد في السلوك العام، هو الاستبداد بالرأي والتفرّد، فهذا لا يعني أن يكون الأخذ بالمشورة والاستماع الى الآخرين، ما يشبه الحالة غير الطبيعية، أو "التغريد خارج السرب"، إنما المهم، النظر في نتائج "سعة الصدر" أمام الرأي الناقد والملاحظة والتصويب، فعندما يكون هنالك خطأ في الاسلوب أو الأداء وحتى في المنهج والسياسة، ثم يتم التصحيح والتقويم بفضل هذه الخصلة الجميلة، فان النتيجة قطعاً، ستكون، المضي على سكة التقدم والتطور. ولنا أدلة وشواهد، وربما للقارئ أكثر، في حالات "ضيق الصدر" التي أدت الى كوارث ومآسي في الأمة، عندما أغلقت الابواب أمام الرأي والنقد، وإن جاء من أخلص الناس وأكثرهم حرصاً على مصير الأمة. وربما نظرة سريعة على الاوضاع الراهنة في بلادنا، بالامكان ايجاد أمثلة عديدة في هذا المجال.

واذا كنّا نبحث عن القوة والمنعة والصلابة في مواقع العمل امام التحديات، فيمكننا الاستماع لما يقوله أمير المؤمنين، عليه السلام، وهو يوصي واليه على مصر، مالك الأشتر النخعي، في كتابه المطول والشهير، المعروف بـ "العهد"، حينها نعرف، هل في هذا العهد ما يسبب  الضعف والهشاشة في الادارة..؟ يقول، عليه السلام: ".. واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله، يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع. ثم احتمل الخرق منهم والعيّ، ونحِّ عنك الضيق والأنَفَ يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته..".

هنا يعطي الإمام، عليه السلام، البعد الحضاري الواسع لـ "سعة الصدر"، عندما يربطه بمصير الأمة، وهو يستند في ذلك الى سيرة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، فوجود القوي مع ضيق الأفق والصدر، أمام الجماهير التي تتخوف وتتهيّب من إبداء رأيها او اعتراضها، بمعنى الاتجاه نحو التآكل والتصدّع الذي ينتهي الى الدمار، وهنا مقارنة تستدعي التأمّل، فسعة الصدر توازي التقديس، بمعنى ان هذه الخصلة من شأنها ان تضخ في المجتمع والأمة، عوامل القوة والتماسك والمنعة أمام التحديات العنيدة التي نشهدها اليوم،

وحسب هذه المعادلة الحضارية التي يرسي دعائمها الرسول الأكرم، فان "ضيق الصدر"، يجعل المسؤول والحاكم، مهما كان منصبه وموقع عمله، بعيداً عن الحقائق والحكم التي تفيده في اتخاذ القرار الصائب، فيكون كالشجرة اليابسة على أرض مرتفعة لا تصلها المياه و الاملاح والعناصر اللازمة للنمو والاخضرار.

المستقبل للصدر الرحب

ربما يحاجج في الدعوة بإصرار على "سعة الصدر" لأنها تكلف صاحبها الكثير من التحمّل والاستيعاب، لما في الأمر من تراكمات ومشاكل وهموم، عليه أن يفرز بين هذا الرأي وذاك، وبين هذا السلوك وذاك، ليحقق الهدف المرجو وهو توثيق العلاقة مع المجتمع والجماهير، فهنالك من يتسائل عن الحاجة لهذا الاصرار على توثيق العلاقة مع الناس، وما الضير من أن تكون مستوحاة من بنود القوانين التي وضعها المفكر الايطالي "نيكولو ميكافيلي" في كتابه الشهير "الأمير" وأهداه للساسة في العالم منذ القرن الرابع عشر، وبشّر منذ ذاك الحين، بـ "الواقعية السياسية"..؟. هذه النظرية وما حواه "الأمير" يدعو، فيما يدعو اليه الحكّام أن يكونوا على حذر شديد من الجماهير، ولا يفكروا يوماً بأن يكونوا في مأمن منهم، اذا ارادوا تحقيق النجاح والاستمرار في الحكم.

للإجابة المستوحاة من سيرة أهل البيت، نسأل عن فائدة التنفّر التشدد مع الآخرين لفترة من الزمن، خلف هذا المكتب الفخم، أو عند ذاك المنصب الحكومي او الأمني او غيره، في وقت نشهد ويشهد الجميع أمواج التغيرات التي تعصف بالساحة، فلا آمان لأحد بأن يدوم في مكانه أكثر من الدورة الانتخابية التي يتمسك بها، اذا كان من نتاج الانتخابات، او ربما لا يدوم لأشهر أو ايام اذا كان مديراً او مسؤولاً اذا نافس الآخرين، ليس على "سعة الصدر" والتعامل الحسن مع الناس، إنما بنفس الطريقة التي يتبعونها، ربما ليكون أكثر منهم ضيقاً وصرامة مع الناس ليحقق اكبر قدر ممكن من النجاح!.

وها هو الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، في مدينة جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، على دابته يسير في طريقه، حاله حال سائر الناس، وقد تخلّى عن الحكم لطالبها والمستميت من أجلها، (معاوية)، واذا به يستوقفه شخص قادم من الشام، وما أن عرفه، بدأ ينهال عليه بالسباب والشتم، عليه وعلى أبيه، أمير المؤمنين، عليهما السلام، وقبل أن يبادر أصحابه الى ردود الفعل الطبيعية أزاء هكذا مواقف، توجه الإمام، عليه السلام، نحو ذلك الشامي المعبأ أموياً، وقال له:

"يبدو انك غريب عن هذه الديار يا أخا العرب.."؟!

قال الشامي:

"نعم. انا من الشام ومن شيعة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان.."!

فرحّب به الإمام من جديد، وقال له: أنت من ضيوفي..". فامتنع الشامي في البداية، ولكن الإمام الحسن، عليه السلام، أصرّ عليه ولم يتركه حتى قبل النزول عنده وبقي الإمام يخدمه بنفسه طيلت فترة استضافته. وخلال هذه الفترة، كشف له الحقيقة التي طالما حاول معاوية تغييبها عن المسلمين، لاسيما أهل الشام، بل كان معظمهم يجهل القرابة التي تربط الامام علي وبينه، بالنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله.

هكذا بقي الامام الحسن، عليه السلام، بهذا الموقف المبدئي والتاريخي الخالد، كما هو خالد ايضاً في ناصية التاريخ مع أهل البيت، عليهم السلام، في نهجهم وسيرتهم التي ثبت للعالم أنها هي الجديرة بإسعاد الانسانية، لكن أين اصبح معاوية، ومن هو على شاكلته..؟! هل يثني عليهم التاريخ، وهل تذكره الاجيال والانسانية بخير؟ وكيف يكون ذلك، عندما يروي لنا التاريخ، عما فعلوه من سفك الدماء والتنكيل بالناس والتجاوز على الحرمات والحقوق؟.

إنها لعبرة حقاً، لكن لمن يعتبر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/شباط/2014 - 2/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م