مؤديات العنف اللفظي

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: العنف يتوزع على شقين، الأول لفظي يأتي عن طريق التفوّه بكلمات جارحة، تنطوي على معانٍ تعنّف الطرف الآخر وتحطّ من شأنه وكرامته، فضلا عن إلصاق التهم والقذف والتشهير، والتطرف في اللفظ والطرح، وما شابه من أساليب، تنطوي على العنف بوضوح.

 أما الشق الثاني من العنف فهو مادي، يستخدمه الناس ضد بعضهم، باستخدام شتى وسائل القوة، لإحداث الاذى الجسدي والنفسي في الآخر، ويحدث هذا النوع من العنف بين الافراد، والجماعات والدول، عبر المشادّات الفردية أو الجماعية على شكل معارك وحروب، حيث يضج التاريخ البشري بأحداث عنف دموية، لا تزال تعصف بالذاكرة البشرية، فضلا عمّا يحدث في العصر الراهن من حالات احتراب، تقطف من الارواح والنفوس ما يُصعب إحصاؤه، نظرا لانتشار ظاهرة التطرف والعنف في مناطق متعددة من أرجاء المعمورة.

النقيض الذي يقف بالضد من العنف هو الرفق، ويمكن أن يكون لفظيا أو عمليا، ويجازي الله تعالى كل من يتخذ من الرفق طريقا واسلوبا للتعامل مع جميع الكائنات (الانسان وغيره)، إذ يقول الإمام الباقر عليه السلام: (إن الله رفيق ويحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف). والعنف في اللغة بمعنى الخرق والشدة، وهو ما يؤدي الى الأذى في جميع الاحوال.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي، (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (اللاعنف منهج وسلوك)، عن العنف في اللغة: (العنف في اللغة: أي الخرْق بالأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق. وهو الشدة والمشقّة، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله). بمعنى أن نقيض العنف هو الرفق، وأن كلا النقيضين، العنف والرفق ينطويان على طاقة الخير من جهة وطاقة الشر من جهة اخرى، وهاتان الإرادتان أو الطاقتان هما في صراع دائم، في النفس البشرية وعلى ارض الواقع أيضا.

النفس ميدان الخير والشر

في الغالب يبدأ العنف من خلال اللفظ، حتى المشادات البسيطة، او الحروب الكبيرة، لا تحدث من التمهيد لها بالكلام والتصريحات المتبادلة، لذلك يحذر الامام الشيرازي من خطورة العنف اللفظي، حيث يضاعف من حالة الاحتقان والكره، ويقود بالنتيجة الى الضغينة، ومن ثم الاحتراب، وهذا يتناقض مع المبادئ الاسلامية التي تدعو الى الجنوح للسلم، إلا في حالات معينة أهمها حالة الدفاع عن النفس، لذلك يعد تجنب العنف اللفظي الخطوة الأهم في تجنب العنف المادي الجسدي، ويتم قبر الشر والعنف وهو في مهده، لذلك تعد قضية نبذ العنف من اهم المبادئ التي صاغ الامام الشيرازي في ضوئها نظريته المعروفة حول اللاعنف، فبعد دراسة لما تنطوي عليه النفس البشرية من صراعات محتدمة بين الخير والشر، دعا الامام الشيرازي الى اتخاذ الاعتدال منهجا ونبذ العنف اللفظي، وتحييد مكامن الشر في النفس البشرية.

لذا يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (النفس الإنسانية فيها قوى خيرة تجر الإنسان إلى عمل الخير والصلاح، وفيها أيضاً قوى عدوانية شريرة تحاول جر الإنسان إلى الأعمال الشريرة، والعنف من المصاديق الظاهرية لتغلب القوى الشريرة في الإنسان على القوى الخيرة، وهو من المشاكل المهمة التي صادفت الإنسان في سالف الزمان وإلى يومنا هذا؛ فكثير من الحروب المدمرة وجرائم القتل الفردية والجماعية، وانتشار الحقد والعداوة بين الناس، كان بسبب العنف). وهكذا سعى العلماء والمصلحون دائما الى أهمية محاصرة العنف، من اجل التقليل من الاضرار الفادحة التي يتسبب بها، من خلال مكامن الشر التي تنطوي عليها نفس الانسان.

فقد جاء في كتاب الامام الشيرازي في هذا المجال: (لقد حاول أغلب المحللين الاجتماعيين وعلماء النفس، وضع القواعد السلوكية والقوانين الاجتماعية لتنظيم أعمال الإنسان، وإيجاد الضوابط المحكمة للسيطرة على عدوانية النفس الإنسانية، أو على الأقل تحجيم آثارها). ومن المؤكد أن تحييد العنف الفعلي، يبدأ بنبذ العنف اللفظي، والاحتكام الى التوازن والحكمة، وانتهاج مبدأ اللاعنف كطريق لمعالجة الخلافات والمشكلات في جميع الاحوال.

البدائل والعلاج الشافي

يحثنا الامام الشيرازي في كتابه (اللاعنف منهج وسلوك)، على أهمية البحث عن بدائل للعنف، خاصة أننا يمكن أن نواجه الشر وانعكاساته في كل لحظة، لأننا نعرف بأن الشر موجود معنا، يأكل ويشرب ويتحرك بيننا، فلا سبيل للقضاء عليه بصورة كلية، كونه موجود في اعماق النفس وتنطوي عليه التركيبة النفسية البشرية، ولكن يمكن مراقبة الشر في دواخلنا ودواخل الاطراف الاخرى، ومن ثم التعامل مع هذا الخطر الداهم والدائم، بما يحد من تأثيراته، وأول وأهم الاسس التي يستند عليها فعل الخير المقاوم للشر، هو نبذ العنف اللفظي أولا، وكل أشكال العنف الاخرى، واعتماد الهدوء والتوازن والاعتدال واستنهاض الضمير الانساني في أعماقنا دائما.

يقول الامام الشيرازي في هذا الشأن بكتابه (اللاعنف منهج وسلوك): (لقد وضع الإسلام البدائل للعنف، ودل الإنسان على العلاج الشافي لهذا المرض العضال، فأوجد له تعاليم وسنّ له القوانين التي إذا اتبعها بصورة موزونة وسليمة فإنه بلا شك سوف يتغلب على هذه المشكلة وتهدأ نفسه ويرتاح ضميره أي يصبح هادئاً مطمئناً). ليس الامر سهلا بطبيعة الحال، إنها قضية ارادة أولا، أي لابد من الاصرار على استنهاض ارادة الخير التي تحد من سطوة الشر وهيمنته، وهذه الارادة هي التي تصنع القدرة لدى الانسان لكي يرفض العنف اللفظي بشكل قاطع، ومن ثم رفض جميع الاشكال التي تؤدي الى الصراع والتطرف وتؤجج الاحتراب، لذا فإن مكافحة العنف والشر وترويض النفس يحتاج الى ارادة وكفاح وايمان وتدريب على حب الخير.

لهذا يؤكد الامام الشيرازي بقوة على جانب تهيئة النفس، لنبذ العنف اللفظي، واعتماد سبل الخير والسلام والاعتدال، حتى نتمكن من ايقاف الشر عند حده، لأن اللفظ يمكن أن يكون بداية الشر أو الخير، من هنا تأتي اهمية حسن اللفظ واعتداله، وهو منهج اعلنه الامام في نظريته المعروفة عن اللاعنف، لذا يقول الامام الشيرازي في كتابه نفسه:

(علينا أن نهيئ أنفسنا ونعدها إعداداً يمكننا من مجابهة الصعوبات التي تعترض طريق عملنا؛ لنواصل العمل بكل جد ومثابرة. أما كيف يمكن تجاوز الصعوبات حتى يستمر العمل ويعطي نتائجه؟ فإن أهم ما يتطلبه العمل الصحيح الذي يعطي ثماره ويرضاه الله سبحانه وتعالى، هو أن يكون مصحوباً باللاعنف وممتزجاً بالتقوى والورع والأخلاق).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/شباط/2014 - 2/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م