شبكة النبأ: بالرغم مما قيل عن أهمية
وأولوية الحرية في حياة الإنسان، وأنها الخطوة الاولى في تحقيق الأمن
والعدالة والمساواة، وتحكيم القيم والمبادئ والفضائل، ومن ثم التطلّع
الى المنازل المتقدمة في الاقتصاد والسياسة وغيرها، إلا ان معظم شعوبنا
ما تزال تراوح في مستوى التفكير بالاجواء الآمنة التي توفر الخروج من
البيت والوصول الى مكان العمل، وايضاً تأمين فرصة العمل ومستقبله، ثم
توفير الأمن في الحياة العامة، بحيث يكون الإنسان مرتاح البال، لا
يداهمه قلق واضطراب، ويتفرّغ للحصول على لقمة العيش وبعض الاحتياجات
الضرورية لحياته.
وقبل ان يتحدث المفكرون والفلاسفة عن أهمية الحرية ودورها المحوري
في حياة الإنسان، أكدت النصوص الدينية لدينا ليس فقط هذه المسألة،
إنما بينت حقيقة غائبة، وهي إن الحرية جزء من كيان الانسان وفطرته.
تقول الآية الكريمة في (سورة الاعراف): "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.."، فمن اهداف
بعث النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، هو تعريف الانسان في الجزيرة
العربية والعالم كله، أنه حرٌ مذ ولدته أمه، وما عليه إلا ان يتخلص من
الأغلال والقيود النفسية التي تفرضها عوامل داخلية، منها نفس الانسان،
وخارجية، منها أهل السياسة والحكم وأهل المال والرساميل والمصالح
التجارية.
لكن المشكلة في أن البعض هذه الايام، يجدون في الحرية ما يتعبهم
ذهنياً ويدفعهم نحو إعمال التفكير والتدبر والتطلّع نحو آفاق بعيدة عن
واقعه، بينما الأمن يحقق الحاجة الآنية والفعلية، ولمجرد حصوله على
الأمن، في عمله ومسكنه، وفي وذهابه وإيابه، فانه لن يفكر بشيء آخر. هذا
الواقع رصده أهل السياسة والمال بدقة في بلادنا التي شهدت تغييرات
كبيرة ومحاولات للتغيير من حال الى آخر، على شكل ثورات جماهيرية أو
حركات انقلابية، ومن جملة الأمثلة على ذلك مصر، التي تشهد حالياً أعمال
عنف دامية وهو بعد لم يختر الطريق الذي يمضي فيه، وما اذا كان سيحقق
الأمن أو يحصل على الحرية، في ظل صعود نجم العسكر، وحصول الشخصية
الاولى في مصر حالياً، الفريق عبد الفتاح السيسي، على منزلة الرجل
المميز أو المذهل (سوبرمان).
لذا فان "السيسي" لم يظهر أمام الجماهير المصرية، إلا بعد وصول
الاحتقان السياسي والغليان الجماهيري ضد حكومة مرسي ونظام الحكم الذي
كان يدير دفته الاخوان المسلمون، حد الانفجار، من خلال التظاهرات
العارمة التي عمّت المدن المصرية، ثم اندلاع اعمال عنف وحرق وتخريب،
وإلا فان المعروف أنه لم يكن سوى قائداً للقوة البرية في الجيش المصري،
قبل أن يختاره الرئيس المعزول محمد مرسي لوزارة الدفاع في "حكومة
الثورة" بعد الإطاحة بنظام مبارك، ولم يكن في حسبان الاخير بالمرة، أن
يكون هذا الضابط هو من يطيح به من بعد مبارك..!.
وبما ان المراقبين والمتابعين، يؤكدون مسؤولية النهج الخاطئ والفاشل
للاخوان في انهيار تجربتهم بأنفسهم، فأنهم لم يتوقفوا عند هذا الحد، بل
انزلقوا أكثر نحو الاصطدام بالجماهير، والتسبب في حدوث شرخ اجتماعي
خطير في المجتمع المصري، جعل هنالك من هو "إسلامي" ومن هو "وطني"،
فكانت "الإسلامية" التي حملت لوائها تيارات وجماعات متطرفة وعنيفة في
مقدمتها "السلفية"، سبباً في إشعال الشارع المصري وصبغه باللون الاحمر،
وزعزعة الامن والاستقرار، حتى كاد البعض من المراقبين أن يتوقعوا ان
تندفع الامور والاحداث نحو النموذج العراقي، عندما تنفجر بين فترة
واخرى سيارة مفخخة أو يتعرض شخص ما للاغتيال، وهو ما لم تعهده مصر من
قبل. وهذا تحديداً ما تحوّل الى ورقة رابحة بيد السيسي، ومن يقف خلفه
من المؤسسة العسكرية واصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية الذين وجدوا
أن الحاجة الاساس للشعب المصري هي الأمن، وليس شيء آخر، وهذا لن يتحقق
إلا من خلال سلطة قوية بإمكانات وقدرات عالية، وهو ما تجتمع الى حد
كبير في شخص "السيسي". ولمن يتابع احاديث الناس في مصر من خلال القنوات
الفضائية يتأكد من هذه الحقيقة والمعادلة الجديدة التي ربما لم يكن
الشعب المصري له دخلٌ في صياغتها، فهو بات يجد أن أنصار مرسي، بل
وتجربة حكمه مدعاة الى فقدان الأمن والاستقرار، والعيش في ظل اجواء
العنف والكراهية.
هذا الواقع كرّس في مصر مفهوم "الدولة العميقة" التي تمثل وجود
تحالف بين قوى سياسية واقتصادية مع قوة العسكر والمخابرات، في لقاء على
مصالح مشتركة لإدارة دفة الحكم، وهذا ما شهدناه في مصر، فقد تأكد لدى
المراقبين أن الذي لم يتغير منذ الاطاحة بنظام حكم مبارك، هو بقاء أذرع
العسكر والمخابرات في المرافق الاقتصادية الحيوية، مثل المصانع
والموانئ والمؤسسات التجارية وغيرها، وهذا ما عهدته مصر في ظل العسكر
منذ انقلاب عام 1952، وقد أكد هذه الحقيقة، أحمد ماهر مؤسس حركة
(6ابريل)، وهو يتحدث عن خلفيات الصراع بين الجيش والاسلاميين لموقع
محطة "سي – ان – ان" الامريكية، بانه "ربما يكون هذا الصراع بسبب ما
يعرف بالدولة العميقة والاقتصاد السري، ونجد في بعض الأحيان الجيش
يتبرع للخزينة عندما تمر مصر بأزمة، أو يوزع مواداً تموينية بأسعار
مخفضّة للمواطنين، فالجيش مؤسسة لا نعرف ميزانيتها.."!.
وعندما يكون المواطن المصري العادي مشغولاً بالبحث عن الأمن في
الشارع والسوق والمدرسة ومحيط عمله، كيف يتسنّى له التحقق من مشروعية
المال المبذول من قبل السلطة القائمة، او مشروعية العمل الذي يقوم به
هذا المسؤول او ذاك..؟. هذه المعادلة باتت معروفة لدى الجميع في
بلادنا، فالحرية في الرأي والتعبير والمعتقد والاختيار، على صعيد الفرد
والجماعة، تمثل العدو اللدود لأقوى زعيم عسكري، وأكبر مؤسسة عسكرية أو
اقتصادية متنفذة، لان هذه الحرية ستكون النافذة الواسعة للمراقبة
والمتابعة ثم التصويب، بمعنى الحدّ من السرقات وحالات الفساد الاداري.
وحتى إذا ادعت الحكومة المنصبة من قبل الجيش في مصر، انها توفر الحرية،
ولا سجناء سياسيين لديها – مثلاً- فان فضاءات الحرية ستكون محدودة
بالاساس في ظل الشرخ الموجود في الساحة الاجتماعية والثقافية، بحيث أي
إبداء رأي في مصير البلاد والعباد، سيؤخذ على انه تابع لأحد المعسكرين:
إما الإخوان، وإما العسكر، فالأول: يمثل – كما تبين السلطة الحاكمة-
بانه مسبب للفوضى وانعدام الامن، بينما الثاني، فانه يكرّس حكم العسكر
وعودة الديكتاتورية – كما يقول الاخوان- .
من هنا؛ فان الشعب المصري مدعوٌ لأن يقول كلمته في هذه البرهة
الزمنية التاريخية والحساسة، فهو اليوم يتجه وبسرعة، ليس الى الامام ،
إنما الى الخلف ، وتحديداً الى التاريخ الذي صعد فيه مجموعة من الضباط
المعارضين للنظام الملكي، بينهم ضابط باسم جمال عبد الناصر، بواسطة
صيحات ومطالبات الشعب المصري بالعدل والحرية والمساواة، وهي المطالبات
التي تحولت الى احلام حتى الايام الاخيرة من حكم مبارك، وظن الجميع أن
مصر ستخرج من هيمنة السلطة العسكرية، وتدخل واحة السلام والحرية في ظل
التجرية الديمقراطية.
وهذا لا يكون بمجرد كلمات او آمال تقال، إنما بوقفة شجاعة وحضور
كثيف في الساحة، غير الذي شهدناه في الاستفتاء على التعديلات
الدستورية، حيث كانت المشاركة (40%)، وهي مثلت الشريحة المؤيدة لإبعاد
ظلال الاخوان عن الحياة السياسية في مصر، وكانت النتيجة نسبة عالية
جداً من هذه الشريحة الصغيرة (98%) على التعديلات، وقد استوقف
المراقبون بعض مواد الدستور المعدل، بانه يتيح محاكمة مدنيين في محاكم
عسكرية. فاذا انتفض الشعب المصري على الرئيس مرسي لأنه تضمن في
تعديلاته الدستورية الاولى بعد "الثورة"، صلاحيات كبيرة له يشمّ منها
رائحة الايدلوجية الاخوانية، فانه يشهد اليوم تعديلات يشمّ منها رائحة
الهيمنة العسكرية على مقدرات ومفاصل الدولة.
يقول المفكر والسياسي الامريكي الشهير الذي كان له دور في تأسيس
دولة الولايات المتحدة، "توماس جيفرسون": "إن شجرة الحرية يجب أن تروى
من حين لآخر بدماء الوطنيين والطغاة"، بمعنى أن الشعوب الطامحة الى
التغيير الحقيقي والتقدم في الحياة يجب أن تضع اقدامها على طريق التحدي
والمواجهة للحصول على الحرية، قبل ان تأتيها على أيدي العسكر او رجال
الحزب او السياسة، فمثل هذه الحرية، ربما تكون مشوهة وجزئية أو مقيدة،
او ضمن أطر وحدود أولئك الذين خططوا لها وفصلوها على مقاساتهم وأنماط
تفكيرهم.
وهنا تحديداً يتبلور دور المفكرين والمثقفين واصحاب الرأي على شاكلة
هذا المفكر الامريكي او غيره، او ربما أحسن وأفضل، وفي بلادنا الكثير
من الشخصيات الفكرية والثقافية ممن لها القدرة على التأثير وتغيير
المعادلة، لكن تحتاج القضية الى ارادة وتصميم وتكاملية في العلاقة بين
المفكر والمثقف وبين الجماهير. فالشجاعة – مثلاً- يجب أن تكون عند
الاثنين، في تحديد المسارات نحو تشكيل الدولة المدنية القائمة على
المبادئ والقيم وحقوق الانسان، حينئذ يمكن التطلع الى مستقبل بعيد عن
الاستبداد والديكتاتورية وايضاً الفوضى وانعدام الامن. |