ثمة مؤشرات واضحة تستنجها فورا حينما تضطر لسماع بعض ساسة العراق
بعد ان تــــخطأ وتشاهد امامك قناة فضائية تستضيف سياسي ما يتحذلق في
تحليلاته ويتذاكى في طروحاته ويتمنطق في عباراته لدرجة يُشعرك فيها ان
ماقاما به كل من بيل غيتس في مجال برامج المايكروسوفت وستيف جوبز في
ساحة نتاجات ابل لايكونان شيئا يُذكر امام نظرياته واطروحاته السياسية
!.
ففي الوقت الذي اعلنت فيه شبكة غود نت في دراسة عالمية مثيرة تتعلق
بترتيب دول العالم وفقاً لمعدلات الذكاء باستخدام مقياس الـ" IQ"
العلمي الشهير، عن تصدر الانسان العراقي قائمة البلدان العربية بمتوسط
87 درجة، بحيث جعلت الدراسة العراق يحتل المرتبة 21 عالمياً، نجد في
نفس هذا الوقت سياسيين عراقيين يطلقون تصريحات اقل ماتوصف بانها
استغفال للشعب العراقي ولوعيه الذي لم يفهمه ابدا هؤلاء الساسة او انهم
لايريدون ان يفهموه لأسباب نفسية تتعلق بعقد مستحكمة في نفوسهم.
ولان موعد الانتخابات البرلمانية القادمة قد أزف، وبدأ موسم
المزايدات السياسية، وامست الحملات الاعلامية للمرشحين تتقافز امامنا
في وسائل الاعلام المختلفة حتى اقتحمت غرف نومنا، لذا لن تجد من
السهولة كتابة جردة كبيرة بالتصريحات التي تستهين بالعقل وتقلل من شأن
التفكير المنطقي وتستهزأ بفهم العراقي للواقع السياسي الذي اصبح، في
بعض مستوياته، جيدا الى حد ما.
التصريحات التي يمكن ان نسوقها في هذا الصدد كثيرة، ولعل اكثرها
اثارة للاستغراب هو التصريح الذي ادلى به عضو البرلمان العراق عن حزب
المؤتمر" الذي لانعرف له عضوا غير مؤسسه" أحمد الجلبي بحق زيارة رئيس
الوزراء نوري المالكي لواشطن، اذ منح الجلبي وسائل الاعلام تصريحا تضمن
وصفا دقيقا لما جاء من حوار وحديث بين المالكي واوباما.
بالطبع لن اتطرق لمضمون ماقاله الجلبي، ولايعنيني ما افصح عنه، ولن
اضعه على مبضع النقد وطاولة التحليل، اذ انني اناقش التصريح "صوريا" ان
صح هذا المصطلح المنطقي، باعتباره شكلا من اشكال المناهج السياسية ونمط
معين من التفكير استشرى لدى بعضهم وشكّل اطارا يحدد اليات تفكيرهم على
نحو معروف سلفا.
تصريح الجلبي الذي يكشف عن حوار حدث في مكان جمع رئيس اكبر دولة في
العالم ورئيس وزراء العراق يستهزأ بعقل المشاهد والسامع عموما والعراقي
خصوصا، اذ ان الكشف عما دار بينهما، بغض النظر عن مضمون الحديث ومحتواه
وابعاده السياسية، يطرح عدة اسئلة مباشرة وعلى نحو فوري من قبل ذهن اي
متلقي يسمع هذا الحديث.....
من اين علم الجلبي بمقتضى هذا الحوار ؟
وكيف استطاع الجلبي الوصول الى المعلومات التي تضمنتها المحادثة ؟
وهل يوجد مسؤول امريكي يمكن ان يزود الجلبي بمضمون الحوار ؟
وانى لشخصية مثل الجلبي ان يعرف اسرار حوار مهم من الجانب الامريكي
وهو الشخص الذي خسر الكثير من علاقاته مع الشخصيات النافذة في الولايات
المتحدة بسبب سلوكياته وتصرفاته التي قام بها بعد عام 2003 لدرجة
الاعتقاد أن الولايات المتحدة نفضت يدها عنه واصبح بالنسبة لها رجلا
لايتسم بالثقة وغير مأمون الجانب...
وماهو الاساس الذي اعتمده الجلبي في اقناع المواطن بهذا التصريح ؟
هل يتوقع الجلبي من المواطن ان يصدّق مثل هكذا تصريح اعتمادا على
الموضوعية والعلمية ام انه يخاطب جوانب مظلمة في الذات البشرية لاتخضع
لمعايير الصدق وضوابط الحقيقة ومقاييس الموضوعية ؟
الاجوبة التي تقتضيها الاسئلة المطروحة اعلاه واضحة، ولن نبحث عنها
عند الجلبي او ننتظر مكتبه الاعلامي يجيب عليها لكي يقنعنا بما نبحث
عنه، فالتركيز يجب ان يكون على ماتدل عليه هذه الاسئلة التي انبثقت من
تصريحات الجلبي، وما تشير اليه من دلالات، وماتكشفه من معاني يمكن ان
نستخرجها من كل هذا الحدث الذي شكّل، مع امثاله، واقعا نتعامل معه
يوميا في العراق.
أول دلالة يكشف عنها مثل هكذا تصريح ان صاحبه يعيش وضعا غير متزنا
ووهما كبيرا اوصله الى ان يقول ماقاله، ولو كان هذا الشخص متزنا في
طرحة وعقلانيا في خطابه وواقعيا في تصريحاته لما نطق بحرف واحد مما
قاله. اذ لا يمكن ان نصف اي تصريح، يكشف عن حديث سري بين اثنين، مهما
كانت مكانتهما السياسية والاجتماعية، من غير ان يبين لنا، وعلى نحو
مقبول وواقعي خاضع للتحقق والاثبات، كيفية حصوله على المعلومة.... الا
بانه تصريح يفتقر للمصداقية ويحتاج للتبثت والتاكد قبل ان ندخل في جدل
حول مضمونه ونقاش على ساحل حيثياته.
الدلالة الثانية تتعلق بالمشاهد او السامع نفسه، اذا ان صاحب
التصريح قد راهن على محدودية عقل من يسمعه فاستغفله! ولو ادرك صاحب
التصريح ان الاخر ومن يستمع اليه يمتلك مقدرة نقدية وعقلا راجحا لما
نطق بذلك. وفي هذه الدلالة نتائج خطيرة ! فالسياسي الذي يصرح، وهو مؤمن
ان شعبه غير واع وغير قادر على كشف حقيقة تصريحاته، سوف لن نتوقع اي
خير منه اذا ما تسنم سلطة ما ومركز تنفيذي في الحكومة لان هذا الشعب "
ساذج " برأيه ولن يفهم سياساته العظيمة... ورؤيته الاستراتيجية ذات
الابعاد الكبرى...!
التصريح السياسي فن يجب الانسياق وراء ايحاءاته والاغتراف من بحر
الهاماته، وهو علم ايضا يخضع لضوابط ينبغي مراعاتها وقواعد يجب التقيد
بها، فالمطلوب حد ادنى من الواقعية والصدق الذي ينتظره المواطن
العراقي، مع صراحة تزيل الحاجز الذي وضعه السياسي بينه وبين المواطن
بفعل تصريحاته واقواله التي تُظهر انه لايعيش في العراق من الناحية
النفسية وان ظهر لنا انه يعيش بجسده في ارض العراق !.
alsemawee@gmail.com |