التطرف طريق التخلف

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: يسود الاعتقاد لدى الافراد والجماعات وحتى أنظمة الحكم في بلادنا، أن الاعتداد والثقة العالية بالنفس، من شأنها تأسيس قاعدة رصينة في الساحة تحقق الوجود أمام الآخر، إذ لا مجال للتواضع والتعاطي بالتي هي أحسن، على أن اعتماد القيم والمفاهيم، ربما يفوّت الفرصة في ساحة المواجهة، عندما يكون الآخر في عالم غير هذا العالم، مما يفترض التحدث اليه باللغة التي يفهمها.

هذه الحالة هي التي تجعلنا اليوم أمام ظاهرة "التطرف الفكري" الذي نجده في أطر وأشكال عديدة في الساحة، ربما يكون عند افراد في أماكن ومواقع مختلفة، أو يكون لدى جماعات وتنظيمات جماهيرية او نخبوية، كما نجده في نظام حكم يقوم على فكرة او مفهوم معين، مثل "الوطن" أو "الدين" "القومية".

وقد عرّف باحثون هذه الظاهرة بأطر عديدة لكن بجوهر ومحتوى واحد. يقول الدكتور محمد عصران من كلية العلوم التربوية في مدينة رام الله: "إن التطرف الفكري هو إحساس المرء بأنه يمتلك كل الحقيقة، مما يخلق عنده قناعة تامة بصواب ما عنده، وخطأ ما عند الآخرين. واعتقاد المرء أنه على صواب، يدفعه إلى التصرف فى اتجاه تصويب الآخرين إقناعهم بوجهة نظره، فإن اقتنعوا، فبها ونعمت، وإن لم يقتنعوا لجأ إلى العنف، وهو الممارسة العملية للتطرف الفكري، وهي سمة اعتبارية يتسم بها الأفراد للتعبير عن آرائهم ومشاعرهم ومعتقداتهم بطريقة تخلو من التوازن الانفعالي".

وجاء في موقع "مقاتل من الصحراء" تحت بند "مفهوم التطرف" والذي ساهم العديد من الباحثين في صياغته: "يرتبط التطرف بالعديد من المصطلحات، منها "الدوغماتيكية" والتعصب. إن التطرف وفقاً للتعريفات العلمية يرتبط بالكلمة الإنجليزية "Dogmatism" أي الجمود العقائدي والانغلاق العقلي. والتطرف بهذا المعنى هو أسلوب مُغلق للتفكير يتسم بعدم القدرة على تقبل أية معتقدات تختلف عن معتقدات الشخص أو الجماعة أو على التسامح معها".

واذا تصفحنا تجارب الأمم التي جربت هذا النمط من التفكير، نجد أنها لم تجن سوى الدمار والدماء وتوظيف كل شيء لحالة الصراع والتصادم مع الآخر، بدلاً من التفكير في الإبداع والابتكار وانتاج الأفضل، وهي النتيجة التي توصلت اليها بعض الدول صاحبة التجربة، وحصدت التقدم العلمي والنمو والازدهار الاقتصادي، مثال ذلك "المانيا النازية" التي خلقت للعالم حرب عالمية، أودت بحياة حوالي عشرين مليون انسان – حسب بعض الاحصائيات- وتداعيات نفسية وخسائر مادية فادحة.

ثم نلاحظ تجربة "الاتحاد السوفيتي" الذي تراجع هو الآخر عن التطرف والصراع مع العالم لتصدير "الماركسية"، بل ان العقلاء في موسكو – إن صحّ التعبير- فضّلوا التضحية ببلد ودولة كبرى ذات علم وسيادة معترف بها في العالم، ويعودوا من حيث أتوا، والتخلّي عن الأربعة عشر جمهورية التي ضمّوها بالقوة خلال الحقبة الماركسية، والاكتفاء بـ "روسيا الاتحادية" وعاصمتها موسكو. وها هم اليوم لا يتحدثون عن ثقافتهم وحضارتهم وتاريخهم فقط، إنما عن الثقافات المتعددة في روسيا، وفي مقدمتها الثقافة الاسلامية لدى القاطنين في مناطق القوقاز.

لكن من المؤسف حقاً أن نلاحظ الحرص الشديد على تبني هذا النمط من التفكير في بلادنا حتى الآن، وفي المستويات الثلاث آنفة الذكر، ولعل الأخطر يكون في دولة ونظام حكم يعتقد أنه هو الأفضل والأقوى، ثم على الآخرين اتباعه والايمان به وعدم مناقشته او تصويبه، وبما ان القوة والعنف هي الآلية المنفذة للتطرف على أرض الواقع، فإننا نلاحظ ظهور التطرف لدى أنظمة الحكم القادمة على ظهور الدبابات أو القائمة على فوهات البنادق والهراوات.

ومن الجدير الاشارة الى التجربة المصرية في هذا الاتجاه، فقد كانت مصداق المقولة الشهيرة بأنها "تكتب..." بل وتنظّر وتفكر ثم تصدر الفكر والثقافة الى العالم، فجاء الانقلاب العسكري عام 1952، ليضع حدّاً لسيادة الفكر والثقافة ولغة الحوار والمنطق، ويعلو صوت الرصاص ولغة العنف والخديعة والخيانة، وانتشار ثقافة التجسس والحرب، ولا علينا بالأسباب والمبررات التي يسوقها اتباع هذه المدرسة، لأن النتائج والمآلات أبلغ حديثاً وأقوى حجة على ما نذهب اليه. ومما اشتهر به الزعيم المصري آنذاك "جمال عبد الناصر"، "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وهو في ذلك يدّعي انه بصدد تحقيق الحلم العربي بـ "الوحدة"، هذا إن كان هنالك حلمٌ او طموح بالفعل..

ولنلاحظ مصر اليوم.. فقد يكاد المراقبون والمتابعون يجمعون على أن انهيار أول تجرية – ديمقراطية – دينية في مصر، بسبب "التطرف الفكري" الذي تجسّد وظهر بشكل كبير وجليّ على سياسات "الأخوان المسلمين" في سنة واحدة من تسلّمهم الحكم. وهذا الحكم جاء بثورة جماهيرية غاضبة انفجرت بوجه النظام الديكتاتوري العسكري، وريث انقلاب عام 1952. وبات واضحاً خسارة الأخوان لأكثر من ثمانين سنة من العمل الحركي والنشاط الثقافي والنتاج الفكري، بسبب التزمّت والانطوائية وعدم احترام الآخر.

والحقيقة، هي مفارقة مؤسفة، أن نجد بلاد الاستعمار والاستكبار، تزهو بالازدهار والنمو، ثم الانتشار الثقافي والتأثير بقوة على العالم. فيما تبقى دول مثل مصر وايضاً ايران تصارع وتكابد ليس من اجل الحياة إنما للبقاء للسبب ذاته، وبالرغم من كل الشواهد والتجارب، إلا ان أهل الحكم ما يزالوا مصرين على صحّة ما يفكرون به لوحدهم. والمثير في الأمر، تصورهم أنهم في طريق التقدم والتطور والنمو، لمجرد أنهم في صراع مع الآخر..!.

بينما اذا طابقنا هذا التوجه والمنهج مع منهج الاسلام الذي حقق التقدم العلمي والانتشار الثقافي في تجارب تاريخية معروفة للباحثين والمؤرخين. نجد التباعد وحتى التعارض، ويكفينا ملاحظة السيرة النبوية الشريفة، لنعرف ما اذا كنّا على النهج أم لا..؟ فقد أبقى النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، على عديد التقاليد والاعراف التي كانت سائدة في الجاهلية، إنما بادر الى تقويمها وتصحيحها، وإضفاء الطابع الاخلاقي والديني وحتى الانساني عليها. فهو لم يمحُ المجتمع الجاهلي برمته، ويأتي بمجتمع جديد بذهنية وعقلية جديدة. وهو القائل: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". هذه الخطوة الحضارية البناءة، هي التي فتحت أمام الشعوب الاسلامية في شرق الارض وغربها، آفاق التطور والتقدم في المجالات العلمية والمعرفية وحتى الفنون.

فاذا كان النبي الأكرم، يرفق بأمته ومجتمعه عندما كان في عهد الجاهلية والغلظة والتخلف، فان الجدير بنا اليوم أن نتعلم الرفق والاعتدال والمنطق، ونحن نعيش وسط مجتمع يحمل المفاهيم والقيم والتعاليم والاحكام، بغض النظر عن النسبة والمستوى. وهذا تحديداً ما تجسّد في المدرسة الفكرية والثقافية التي أرسى دعائمها سماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كربلاء المقدسة منذ خمسينات القرن الماضي. ويقتفي أثره اليوم سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي – حفظه الله- فمن أهم و أبرز ما جاءت به "المدرسة الشيرازية"، ما يمكن ان نعبر عنه بـ "قوة المنطق باللسان اللين"، والتعاطي مع الآخر بمنطق الحوار والتفاهم، حتى إن النتيجة النهائية التي تكون دائماً للحق والفضيلة، ستقبل على صاحبها عن طيب خاطر وليس بالفرض والإكراه والاستضعاف.

التيار المتشدد والمتطرف في ايران، يحمل مبررات تشدده كما فعل السابقون من قبل، وهي الصراع مع القوى الكبرى التي تريد النيل من "الجمهورية الاسلامية" كتجربة ثورة ودولة، وإن من يكون في ايران عليه أن يكون حلقة صغيرة في ماكنة المواجهة والصراع، لا أن يكون صوتاً مفكراً او منتقداً، لأن البناء والإصلاح عند ابناء هذا التيار لن يتحقق بالانتقاد البناء، إنما عبر المواجهة والحرب، فالجسور والمباني والمصانع وحتى الخدمات الاساسية للناس، إنما تمثل – عندهم- رسالة تحدي و"صفعة على وجه القوى الكبرى..."!، فلذا نلاحظ المفردة المستخدمة دائماً في ثقافة البناء في ايران، وهي "القدرات الذاتية الايرانية"، في رسالة واضحة الى تحدي القدرات الغربية في المجالات كافة.

هذه الحالة أوجدت شعوراً عميقاً بعقدة النقص أمام العالم المتقدم والمتحضر، مما أوجد حالة من التوتر والتشنج لدى هؤلاء منعهم من التبصّر بالحقائق، والتعرف على الأفكار والرؤى الاخرى التي من شأنها تحقيق الرفعة والسمو والتقدم للمسلمين وللأمة التي ينتمون اليها، ويدعون أنهم يحملون لوائها. ومن المثير أن نقرأ مقالة في إحدى مواقع التابعة للتيار المتطرف والمتشدد، وهو يأخذ على سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي، أنه تسبب في تعكير صفو العلاقات بين ايران وماليزيا، بسبب نشر التشيع في هذا البلد الآسيوي..!

نعم؛ لابد من الاستعداد لمواجهة التحديات الثقافية والفكرية والسياسية ايضاً، لكن مع أدواتها واساليبها الصحيحة التي لا تأتي بنتائج عكسية، وهذا يحتاج الى خزين معرفي وثقافي وفكري يوازي، وأكثر ما لدى الطرف المقابل الذي يشكو المتطرفون من تهديداته وتأثيراته. فما فائدة الحذر الدائم من مخاطر "الغزو الثقافي" او استخدام "الحرب الناعمة"؟. فهذا يعد تحصيلاً حاصلا، إنما المطلوب تحديد الآلية والطريقة الفضلى لمواجهة هذه الحرب، باجراءات حرب مماثلة او الرد بالمثل وأقوى.

إن سماحة المرجع الشيرازي يذكر بامتلاك الشيعة في العالم "القوة الناعمة" التي تحدث عنها ذات مرة، وقال: "لو أن الشيعة استخدموا هذه القوة لحققوا نتائج باهرة، واسعدوا العالم..". وهذه القوة تمثل منظومة القيم والمفاهيم التي يحتاجها الانسان لتأسيس حياة سعيدة آمنة، مثل السلم والمحبة والعدل والمساواة والفضائل وغيرها، بينما نلاحظ الغرب يختلق او يصنع هذه القوة بجهود مضنية، لينتج وسائل اعلام واتصال سريعة، وسينما وبرامج تلفزيونية وغيرها من وسائل "الحرب الناعمة".

بينما نلاحظ في مقال يكتبه أحد انصار التيار المتشدد في ايران وهو يتحدث عن ضرورة وجود أدوات "القوة الناعمة" في كل بلد تمكنها من خوض المواجهة مع الاعداء، ويأتي بمثال من ايران، بان هذه القوة فيها تمثل "الايديولوجية الاسلامية وقوة نفوذ القائد والملاحم البطولية والمستوى الرفيع من وفاء الجماهير للحكومة". ولتكن هذه وجهة نظر الكاتب او حتى التيار الذي يقف خلفه، لكن ماذا عن أدوات القوة الناعمة التي تخترق صفوف العدو وتترك بصماته هناك، كما هم يفعلون معنا؟.

هذا النمط من التفكير هو الذي يعزز الاعتقاد بأن هذا التيار يفكر بالدفاع عن النفس ولا يمتلك أية مبادرة في ساحة المواجهة الفكرية والثقافية، لوجود حالة من الاهتزاز الداخلي وعدم ثقة بالنفس والآخرين، وهذا ليس فقط يفقدهم زمام المبادرة، بل ويجعلهم عرضةً باستمرار لمؤثرات واستفزازات الطرف المقابل، بينما نجد المدرسة الشيرازية تتميز بوجودها المؤثر والفاعل في مناطق عديدة من العالم، ورغم إمكاناتها المتواضعة، فهي ترفع خطواتها للامام بثقة عالية واطمئنان وايمان واستقلالية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 22/كانون الثاني/2014 - 20/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م