عولمة إسلامية..

من قاموس الامام الشيرازي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: بشّرت العولمة والنظام العالمي الجديد والذي بدأ الإعلان الرسمي عنه عبر خطاب لجورج بوش الاب، بالازدهار الاقتصادي والتنمية والرفاهية لكل الأمم والعيش الرغيد للناس كلهم، والانتعاش، ونشر التقنية الحديثة، وتسهيل الحصول على المعلومات والأفكار.

من خلال تطبيقات لهذا الفجر الجديد، اكتشف الباحثون والمفكرون أنّ تلك المقولات ما هي إلا شعارات استهلاكية جوفاء، الغاية منها سيادة نظام عالمي مهيمن على مقدرات الشعوب وتسويق نمط ثقافي واحد، هو النمط الأمريكي، على حساب ثقافات لشعوب أخرى.

ومن الأقوال التي تؤكد المخاطر الجدية للعولمة على مقدرات الحكومات والشعوب، ما جاء في كلمة للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك ألقاها بمناسبة اليوم الوطني الفرنسي (14 يوليو 2000)، حيث قال: (إنّ العولمة بحاجة إلى ضبط، لأنّها تنتج شروخاً اجتماعيةً كبيرةً وإن كانت عاملَ تقدُّمٍ فهي تثير أيضاً مخاطر جدّية ينبغي التفكير فيها جيداً ومن هذه المخاطر ثلاثة: أولها أنها تزيد ظاهرة الإقصاء الاِجتماعي وثانيها: أنها تنمي الجريمة العالمية، وثالثها: أنها تهدد أنظمتنا الاقتصادية).

في تعريفه للعولمة يقول جيمس روزانو أحد علماء السياسة الأمريكيين: (إنّها العلاقة بين مستويات متعددة لتحليل الاقتصاد والسياسة والثقافة والأيدولوجيا، وتشمل: إعادة الإنتاج، وتداخل الصناعات عبر الحدود وانتشار أسواق التمويل، وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول نتيجة الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة).

ووصف الكاتب الأمريكي وليم جريدر العولمة (بأنها آلة عجيبة نتجت عن الثورة الصناعية والتجارية العالمية, وأنّها قادرة علي الحصاد وعلي التدمير, وأنّها تنطلق متجاهلة الحدود الدولية المعروفة, وبقدر ما هي منعشة، فهي مخيفة. فلا يوجد من يمسك بدفة قيادتها، ومن ثمّ لا يمكن التحكم في سرعتها ولا في اتجاهاتها).

ويعرّف د. محمد عابد الجابري العولمة بقوله هي: (العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات على بلدان العالم أجمع) وهي أيضاً أيديولوجياً تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته) أي محاولة الولايات المتحدة إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها الاقتصادية والسياسية.

كتاب (فقه العولمة، دراسة إسلامية معاصرة) للمرجع الديني الراحل الامام الشيرازي، والصادر في العام 2002 عن مؤسسة الفكر الاسلامي، جهد إسلامي مرجعي، لتفسير وتحليل هذه الظاهرة، منذ انكشاف بعض اثارها، في السياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد..

الامام الشيرازي (قدس سره) كان قد اختزن وعلى مدار نصف قرن، جميع التجارب التي عاشها معاصرا لطروحات في السياسة والفكر، بدْا من وطنه الام (العراق) مرورا ببلدان مهجره، إضافة الى ما عاصره من معسكرات شرقية وغربية، وتجارب كانت تدور في مدارات تجاذب المعسكرين..

كتب مبكرا عن المعسكر الاشتراكي وعن المعسكر الرأسمالي، مقدما رؤاه التي استشرفها من واقع التطبيق لنظريات المعسكرين في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع..

يرى الامام الراحل، وهو الذي ابصر (العولمة) قد اجتاحت كل شيء في طريقها، انها (لابد منها)، كوجود متحقق على ارض الواقع بما يفرضه (هذا العصر عصر الارتباطات والاتصالات)، لكنه بالمقابل مع اعترافه بهذا الوجود المتحقق، والذي له تأسيسه التاريخي في المرجعية الإسلامية، قرأنا وسيرة، لكنه بالمقابل ، يلزم (العلماء والمفكرين، وذوي الكفاءات والثقافات العالية، السعي الحثيث والمثابرة الجادة، لتحقيق عولمة صحيحة وشاملة، تجمع بين النمو والازدهار، والعدل والأخلاق، ولا يكون ذلك إلا في العولمة التي جاء بها القرآن الحكيم، وندب إليها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام)، فإن القرآن الكريم هو الكتاب الكامل الشامل والغض الطري، الصالح لكل زمان ومكان).

لا يقتصر الامام الشيرازي في نقده للعولمة المتحققة على تبيان عيوبها او وحشيتها التي أشار اليها الرئيس الفرنسي الأسبق، انه يتجاوز ذلك الى تقديم عولمة إنسانية غير متوحشة، تستند الى المرجعية الإسلامية التي يجد فيها فجرا طلع في حقبة تاريخية معينة، ثم انكسفت شمسه نتيجة ابتعاد المسلمين عن تلك المرجعية الرشيدة..

تنوعت في الكتاب، طروحات الامام الراحل حول العولمة واتجاهاتها في شؤون الانسان، فهو في الجانب السياسي منها، يصر على جملة متبنيات، عمودها المنتصب شاخصا ودليلا هي الشورى، والتي تتفرع الى عناوين أخرى، لا يسمح الامام الراحل بتسيد متناقضاتها في حياة الناس..

من تلك المتناقضات (الاستبداد في الحكم)، و(البقاء فيه طويلاً من دون إرادة الشعب له)، و(توارث الحكم خلفاً عن سلف)، و(التلاعب بالآراء أو حصر المرشحين في القائمين بالحكم)، الشورى في التنظير الشيرازي لها، هي المعارض الموضوعي لكل تلك المتناقضات (لأن الحكم في الإسلام بالنسبة لغير المعصومين (عليهم السلام) هو بالتناوب، وبالكفاءات، وبالتصويت الحر الذي تتنافس فيه الأحزاب الحرة، وبالتعددية الحقيقية لا الحزب الواحد، وبأكثرية الآراء، وبالشورى). حسب (الشيرزنة) للمفهوم كما ابدعه الامام الراحل تحت مفهوم (شورى الفقهاء المراجع)..

ولا تقتصر الشورى على تلك الركائز ونفي متضاداتها، بل هي أيضا تمتد الى ركيزة أخرى، وهي التعددية، وهي أيضا تحتوي على النقيضين، في الفهم والممارسة، وهما الايجاب والسلب، وذلك من خلال (أسلوب التعددية السياسية والحزبية التي ينبغي للمسلمين وربما وجب عليهم، اتخاذها في حياتهم وخاصة السياسية، والمتنافسة على البناء والتقدم، لا المتناحرة فيما بينها كما تعارف عند بعض المسلمين في هذا اليوم حيث تشكلت فيهم أحزاب وجماعات تعمل بدل التنافس في الخير والتقدم، على ضرب بعضهم البعض).

وتقترن بالتعددية توفر الحريات التي تسمح بها، وهي في العولمة الإسلامية أوسع مما تنادي به العولمة المتوحشة، فـ (لا تجوز مصادرة حريات الناس التي جاء بها الإسلام وجعلها من أوليات حياة الإنسان، فإن الإنسان المسلم حر في كافة شؤونه، وفي كل الدول الإسلامية: سواء في السفر والإقامة، أو الزراعة والتجارة، أو البناء والعمران، أو الكسب والعمل، أو نشر الكتب والمقالات، أو المجلات والجرائد، أو تأسيس محطات البث والإعلام، أو تأسيس الأحزاب والجمعيات، أو التأليف والخطابة، أو اختيار السكن والزواج، فإنه حر في جميع النشاطات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، إلا في المحرمات الشرعية، ولا يحق لأحد منعه من الأمور المذكورة).

من الأمور التي عملت العولمة المتوحشة على انتشارها والذي اصبح معلما بارزا لها هو ما يمكن تسميته ب (العنف المعولم) والذي انتقل الى صيغة اكثر تدميرا وهو (الإرهاب) العابر للحدود والقارات والثقافات، هذا العنف المدمر والإرهاب المتغول، يرفضه الامام الشيرازي رفضا قاطعا، من خلال ما يستند اليه في دعوته للعولمة الإسلامية، لأنه يرى ان الإسلام (يحرّم الغدر والاغتيال وكل ما يسمى اليوم بالعنف والإرهاب، فانه لا عنف في الإسلام، بل الإسلام هو دين السلم والسلام، والصلح والوئام. ولا يجوز أي عمل يوجب إيذاء الناس وإرعابهم، والغدر بهم وبحياتهم، أو يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين.

فإن الرفق واللين مستحب في كل الأمور، وفي خصوص الحكم واجب، والعُنف والخُرق مكروه في كل الشؤون، وفي خصوص الحكم حرام).

لا تقتصر العولمة الإسلامية كما يطرحها الامام الراحل على السياسة وشؤونها بل هي أيضا تشمل، الاجتماع لتأسيس المجتمع الصالح من خلال اعتباره وحدة واحدة لا تنفصل ولا تتجزأ، لان المجتمع الإسلامي هو (كالجسد الواحد) الذي ينشد (كمال الإيمان) عبر (قضاء حاجة الغير) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والتي تمر من خلال عدد من القواعد مثل (آداب المعاشرة) واحترام (حقوق الآخرين) و (المشورة والتشاور) و (حرمة الإيذاء)..

وتتجسد العولمة الثقافية، التي يطرح نموذجها الإسلامي الراحل من خلال (طلب العلم) و(حرية الثقافة) وانشاء (المدارس والمراكز الثقافية) والحث على (آداب عالمية للتربية والتعليم) توازن بين (مصالح الدين والدنيا)

وفي الجانب الاقتصادي، فالعولمة الإسلامية المطروحة، هي عولمة ترفع شعارات (لا للفقر والحرمان) و(الحرية الاقتصادية) و(تقرير الملكية الشخصية) و( ديون الشعب يؤدّيها الحكام) و(بيت المال في خدمة الشعب) و (حرمة الخيانة في بيت المال) و(احترام حقوق الفرد والجماعة) و(حرمة الغش والخيانة) وعدم (الحلف في المعاملات) و(حرمة الاحتكار)..

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 22/كانون الثاني/2014 - 20/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م