من ارشيف العظماء - جون ماينرد كنز

حاتم حميد محسن

 

كانت وفاة كنز المفاجئة صباح عيد الفصح من عام 1946 أزاحت رجلاً عظيماً. جميع الاعمال التي مارسها- موظف مدني، رئيس كلية، مؤلف، امين صندوق، محرر، مدير شركة، مستشار وناطق رسمي باسم الحكومة، عضو مجلس اللوردات - أدارها باعجاب منقطع النظير.

 كانت لدى كنز المقدرة اكثر من اي شخص آخر في زمانه على اثارة الافكار وتهيئة الرأي العام لقبول المقترحات الجديدة، واذا كان الراي العام في بلاده اكثر استعداداً قياسا بدول اخرى لمواجهة مشاكل ذلك الزمن، فان لكنز الفضل الكبير في ذلك. مما قيل عنه من قصص انه حين عُين مديرا لبنك انجلترا، اتُهم من احد اصدقائه بالتحول نحو الارثودكسية، غير انه اجاب بثقته المعهودة" انت خاطئ. الارثودكسية هي التي التحقت بي". ما كان خيالاً لدى الآخرين كان حقيقة مبسطة لدى كنز. كانت لديه الموهبة التي تأتي فقط للقادة الحقيقين، حين سبق جيله وتمكن في نفس الوقت من سحبه ورائه. لهذا، كانت هناك حاجة الى مزيد من الذكاء والوضوح-اللذان تميز بهما كنز كثيراً. هو امتلك ايضا نزاهة الفيلسوف وحماسة إستشعار اللاّمنظور.

من بين العديد من صفاته، الاقتصادي الذي سيبقى يتذكره الناس طويلا. كان كنز في الخط الامامي للاقتصادين البريطانيين العظام من آدم سمث حتى جون ستيوارت مل، جاعلاً اولى مهامه دراسة الحقائق والتأكد من ان استنتاجاته منسجمة مع الفطرة السليمة. ولكن رغم وثوقه بالتقاليد هو كان ايضا ثوريا. منذ ايام ريغاردو لم تقفز النظرية الاقتصادية بسرعة الى الامام مثلما قفزت في السنوات التي أعقبت ظهور "رسالة في النقود" في ربيع عام 1930. لم تكن هناك اي نظرية ثورية جديدة بالكامل وكان كنز سخيا في التعبير عن التزاماته تجاه الكتاب الاخرين. لكن تجديد النظرية الاقتصادية في الـ 25 سنة الماضية (التي سبقت وفاته) ارتبط باسم كنز كرئيس معماري.

ان الثورة في الافكار بدأت من اهتمام كنز في النظرية النقدية، وبالذات، من ايمانه ان العودة الى نظام الذهب عام 1925 وفرضْ نظام ثابت للصرف على الاقتصاد كان يمثل عوائقاً ثقيلة -خاصة في الاجور النقدية- تركت مجالاً قليلاً للمناورة، وستؤثر حتما في خلق البطالة. لكن كنز كان بوضوح غير مقتنع بتفسيراته لأسباب البطالة وبدأ باستكشاف البناء الديناميكي للاقتصاد الحديث. الشكل الاول لنظريته المتميزة ظهر- بالضبط في اللحظة الملائمة- في "رسالة في النقود" في ربيع عام 1930.

من سمات كنز انه لاحقا يعيد مراجعة العديد من الرؤى التي وضعها في كتابه "رسالة في النقود". انجيل كنز كان "النظرية العامة"عام 1936 وليس "الرسالة" عام 1930. لكن "الرسالة" مع ذلك، تجسد الى حد كبير الكتاب الاعظم في تاريخ الفكر الاقتصادي. كان الاقتصاد الارثودكسي، حتى ذلك الوقت غارقاً وبإفراط بتحليل الظروف الثابتة وبالاختبارات التفصيلية لرؤية المرء للعمليات الجارية بسرعة. كنز،"في الرسالة" خلق تحولاً من الثابت الى المتحرك او من الستاتك الى الداينمك، هو حوّل الاقتصاد الى دراسة تدفق الدخل والانفاق، وهو بعمله هذا فتح افقاً جديداً بالكامل امام الاقتصاديين. التركيز التقليدي على استقرار مستوى الاسعار كهدف رئيسي للسياسة النقدية سمح بإعطاء حيز من الاهتمام بصحة اقتصاد المجتمع، وفق قياسات الدخل القومي وكما يُعبّر عنه بحالة الاستخدام.

"الاستخدام الكامل" اصبح شعارا، وان الافكار المحيطة به هي عموما كنزية في الاصل.

ان اعظم مساهمات كنز لنظرية البطالة – ان كانت مثل هذه موجودة من قبل- تكمن في تأكيده على التوفير والاستثمار. الفكرة المركزية في "الرسالة" كانت غياب اي ارتباط اوتوماتيكي بين هذين المتغيرين: بين التغيير في عادات التوفير من جانب وفرص  تكوين رأسمال حقيقي في الجانب الاخر. هو اعلن، ان التوفير عندما يزداد لدرجة يتجاوز فيها فرص الاستثمار المتوفرة، سيجعل من المستحيل للشركات ككل تحقيق الارباح ولهذا ستبتعد عن المغامرة فتزداد البطالة. كذلك، ان التشخيص اقترح العلاج: اذا لم يكن هناك التقاء اوتوماتيكي بين التوفير وخلق راس المال، فلا بد ان يكون هناك التقاء مخطط، علاج حلقة التجارة يكمن في السيطرة الواعية على اجمالي التوفير من جهة وعلى الانفاق الرأسمالي من جهة اخرى.

نظرية كنز في الاقتصاد الكلي برزت مما سمي بالكساد الكبير في الثلاثينات عندما وقفت نظرية الاقتصاد الارثودكسي النيوكلاسيكي عاجزة عن توضيح سبب الانهيار الاقتصادي الشديد ولا حتى توفير حل كاف للسياسة العامة، حيث جادلت هذه النظرية الارثودكسية ضد تدخل الدولة ولصالح سياسة عدم التدخل. كان كنز يخشى ان (عمل لا شيء) تجاه الانحدار الاقتصادي وارتفاع البطالة سيجعل الامور اكثر سوءاً.

هذه المجموعة من الافكار لم توضع في الاختبار التطبيقي ضمن ظروف تسمح بعرض مقنع للحقيقة. لكنها عرضت توضيحا مقنعا ومثمرا للظاهرة الاقتصادية لقي قبولا واسع النطاق- من حيث المبدأ ان لم يكن من حيث التفاصيل – في جميع الدول الناطقة بالانجليزية وفي العديد من الدول الاخرى. كان واضحاً منذ البداية ان التأثير سيكون كبيرا جدا يتعدى حدود العقيدة الاكاديمية. حقل جديد بالكامل فُتح للاعلان عن سيطرة الانسان على قدره. جسرُ بُني – دون ان يُعبر بعد - بين الليبرالية القديمة و المفاهيم الجامدة لذلك الطراز القديم من الاشتراكية. تحليلات كنز جاءت منسجمة مع اتجاه توسيع مسؤولية الدولة، وهو ذاته أعلن عن نهاية سياسة عدم التدخل laisser faire، ولم يعد ممكنا ابدا للدولة اعتبار مستوى الاسعار ومستوى الدخل القومي او حجم الاستخدام اشياءاً خارج سيطرتها. لكن السياسة الاقتصادية بقيت بالنسبة لكنز مسألة تتأثر كثيراً بالاهداف المالية، وكانت الجهات السياسية التي اهتم بها هي جهات مالية مثل الخزانة والبنك المركزي. ذلك لم يكن فقط لأن كنز كان رجل خزانة وانما ايضا لأنه كان ليبراليا: اعتقد بان الاهداف التي اقترحها يمكن انجازها باقل الضرر لحرية الافراد عبر الاعتماد على السيطرة المالية الكاملة في مجال المصارف والسياسة المالية. هو لم يؤمن بوسائل تفصيلية للسيطرة او بالمركزية المقيدة. وبالعكس، هو آمن بامكانية خلق ظروف تكون فيها تلك السياسات غير ضرورية. فلسفته كانت هي السيطرة على الطقس الاقتصادي وليس اصدار تعليمات مفصلة حول منْ يجب ان يمتلك مضلة. على طول هذه الخطوط كان يجب ايجاد تسوية، بين الرغبة بـ “اتجاه هادف" للشؤون الاقتصادية (تعبير كنز) والحريات الابدية للفرد غير المنظم.

كانت الموضة السائدة بين الجهلة ولعدة سنوات هي السخرية من كنز واتهامه بعدم الانسجام. من الصواب انه لم يكن لديه اهتمام ثابت بافكاره الماضية وانه لم يوجد هناك منْ هو افضل منه في اي وقت مضى اظهر ان الانسجامية السطحية هي شكل من المشاكسة للعقول الصغيرة. المتعة الفكرية للاستكشاف عادة تحمله بعيداً، ومهارته الديالكتيكية التي لا تُجارى تقوده لملاحقة الخصم الهارب الى ابعد مما يتطلبه الامر. ولكن ان اجلا ام عاجلا، حينما تخفت حرارة المطاردة، سيعود حالاً الى السكة الرئيسية للافكار ليضع نفسه مرة اخرى على جادة الصواب. موته المفاجئ اعتبره البعض سببا لأكبر حالات اللاانسجام لديه. خلال ما لا يقل عن عقدين سعى كنز في افكاره لإبعاد الاستقرار المخطط للاقتصاد القومي عن اضطرابات العالم الخارجي. في "خطة كنز" لإتحاد المقاصة الدولي، الذي نُشر عام 1943، بدا هذا القطار من الافكار يتحول عبر الفحص والتقويم الى مرحلة اكثر ايجابية.

مقترحات (بانكور) كانت اولى المحاولات لتطبيق العقيدة الكنزية الاساسية على الاقتصاديات الدولية ولخلق آلية يمكن بواسطتها خلق حالة من التوازن الاوتوماتيكي لـ "التوفير" النقدي للدول الدائنة وموازنتهُ بالتدفق المادي للسلع والخدمات النافعة. لكن رجل الدولة كنز تسلم فيما بعد مسؤولية رجل الاقتصاد، كما ان المزايا العظيمة للتفاهم الاقتصادي الشامل مع الكنزيين الامريكيين الذين لم ينضجوا بعد قادهُ تدريجيا الى نظام برتن وودز، النظام المليء بتناقضات الافكار الكنزية سواء كان جيدا ام سيئا، عمليا ام غير عملي.

يجب ان يُترك للاجيال القادمة الحكم على مدى عظمة الرجل كنز. لكن ما لا ستعرفه الاجيال القادمة ابدا (كما ذكر مرة اننا في المدى البعيد جميعنا ميتون)، هو سحر الرجل، والتألق المدمر في حديثه، سرعة البديهة، سخائه الكبير للمصلحة العامة التي قتلته في النهاية.

............................................

From the archives, John Maynard Keynes, The Economist ,Nov 26th 2013.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 22/كانون الثاني/2014 - 20/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م