رسالة التضحية في مواجهة الإرهاب التكفيري

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: العطاء والإحسان والعمل من أجل الآخرين، يوجه خطابين؛ الاول الى الانسان صاحب الفعل، والخطاب الثاني الى الذي يقع عليه الفعل والمستفيد من هذا الموقف الاخلاقي والانساني. وبما أن الانسان، يبقى انساناً، مهما احتوشته الظروف القاسية، ولن يتحول الى حيوان بالفعل – إلا نادراً- فان تلكم المواقف تترك في نفسه وضميره أثراً طيباً، تميزه عن الحيوان الذي ربما لا يكترث الى من يطعمه ويحسن اليه، سوى بعض الحالات. وهذه تحديداً الرسالة التي يؤكد عليها الاسلام، في منظومته الاجتماعية والاخلاقية، والتي تجسدت في حالات ومناسبات عديدة في سيرة المعصومين، ولعل أبرزها وأكثرها سطوعاً في واقعة عاشوراء. فالتضحية بالنفس التي جسّدها الامام الحسين، عليه السلام، جاءت لتكمل رسالة الإمام الى الأمة، وهذه المرة، ليس كلاماً يسمعونه في صحراء كربلاء، إنما خطاباً موجهاً الى الضمائر عبر التاريخ.

من هنا؛ يمكن تفسير انتشار ثقافة التضحية بالنفس من أجل الآخرين، والتي بدأت من العراق، خلال المواجهات مع الجماعات الارهابية والتكفيرية، واليوم بلغ مداها الى باكستان التي تعاني هي الاخرى فيروس التكفير والارهاب الطائفي، حيث تناقلت وسائل الاعلام خبر الموقف البطولي لفتى باكستاني اعترض طريق انتحاري حاول اقتحام مدرسة للبنين، وعندما استوقفه عند بوابة المدرسة، اضطر الانتحاري الى تفجير نفسه ويكون الطالب " اعتزاز حسن بانغاش" مضحياً بنفسه دون أقرانه الطلاب الذين شهدوا المنظر المريع وسط المدرسة.

امثال هذا الموقف، حصل لمرات عديدة في العراق منذ زوال الديكتاتورية وظهور الارهاب الطائفي والتكفيري، وكان أبطالها – على الأغلب- من افراد الشرطة والجيش، واذا لم لم تخني الذاكرة، فان أول عملية كان بطلها منتسب الى الشرطة احتضن ارهابي حاول اقتحام مركز انتخابي في أول دورة للانتخابات البرلمانية جرت في كانون الاول عام 2004، وقد حاولت الحصول على احصائية لعدد شهداء الشرطة والجيش الذين ضحوا بأنفسهم لإنقاذ الآخرين، خلال العشر سنوات الماضية، لكن لم أفلح للأسف. أما عن آخر عملية من نوع هذا النوع، فكان بطلها احد منتسبي فوج طوارئ محافظة ديالى، الشرطي "أيوب خلف"، الذي اعترض ارهابي حاول اقتحام خيمة لاستراحة الزائرين المتجهين لزيارة أربعين الامام الحسين، عليه السلام، وقبل أن يدخل الانتحاري الخيمة، سارع هذا الشرطي باحتضانه وابعاده عن الخيمة ليكون في عداد الشهداء والمضحين بأنفسهم من أجل الآخرين.

إن موقف التضحية بالنفس امام انتحاري – تكفيري، يختلف الى حدٍ ما، عن موقف التضحية بالنفس في سوح القتال حيث تكون المعارك دائرة بين جانبين، فالذي يوجه الرصاص والقنابل الى جبهة الحق ويوقع فيهم شهداءً، يعد نفسه منتصراً او حقق نصراً عسكرياً، فالامر يتعلق بمعادلة عسكرية على الأرض. بينما الانتحاري الذي يتحول الى أشلاء ممزقة، ليس بين جموع من الناس، كما يريد ويخطط لذلك الذين من يقف خلفه، إنما أمام شخص واحد يتحداه ويقف أمامه دون خوف ورهبة. وهنا تظهر حقيقة جديدة؛ وهي شجاعة المتحدي ويقينه بالحق، وجبن الانتحاري وباطله، حيث يريد ان يتخلص بنفسه من نفسه قبل أن يكتشف الحقيقة، فهذا يريد إبادة الناس، والآخر يريد احيائهم.

هذا الخطاب الخاص، لا اعتقد ان وسيلة اعلامية او قناة ثقافية قادرة على ايصالها الى المخاطب، سوى بالتضحية نفسها. لأن الضمير يُعد السطح الاخير في نفس الانسان الارهابي والتكفيري، وهناك مضمرات وكوامن في نفس كل انسان، مهما كان وفعل، وليس من السهل الوصول الى هذا السطح السحيق في انسان توجهه ايعازاته الدماغية بأن يبتهج ويهرول الى تفجير نفسه وسط حشود من النساء والاطفال او الزائرين او حتى المتسوقين في المناطق السكنية. فثمة علميات غسيل مخ متقنة للغاية تجريها منذ سنوات أقسام خاصة في مخابرات عربية تعاضدها مؤسسات دينية وثقافية عربية ايضاً لتخريج اشخاص يجدون انتصارهم ومكسبهم في الحياة القضاء على حياة الآخرين، لاسيما الذين يخالفونهم في الرأي والعقيدة. لكن هل يبقى الضمير بعيد عن أيدي العابثين والمؤثرين بأي حال من الاحوال، لأنه يتعلق بانسانية الانسان وفطرته السليمة التي فطرها الله عليها، ولذا نسمع عن حرملة (قاتل الرضيع في كربلاء) وهو يروي للمختار كيف انكسر قلبه للمرة الاولى عندما أصيب الرضيع بالسهم، ولحرارة السهم انتفض الطفل بشدة بين يدي الامام الحسين، عليه السلام.

 وهناك حادثة تروى عن جيش المغول، حيث سأل "هولاكو" ذات مرة عدداً من الجنود عن مواقفهم وانجازاتهم في الإبادة والقتل، وما اذا كان قد ترددوا في شيء من عملهم، فأجاب أحدهم بـ "نعم"..! فسأله "هولاكو" كيف ذلك..؟ فقال: عندما صادفني طفل رضيع، كان آخر من قتلتهم برمحي، ولما ادخلت الرمح في فمه، تصور الطفل أنه صدر أمه، فاراد أن يرضع كعادته، فرقّ قلبه له، لكن سارعت الى غرس الرمح في فمه وقتله. لكن هذا الاعتراف كان بمنزلة قرار الاعدام بحق هذا الجندي على يد هولاكو.

في الحقيقة؛ اذا اردنا دراسة وتحليل ظاهرة الانتحاريين – التكفيريين، علينا دراسة حالات العنف والدموية والقسوة المفرطة عبر التاريخ، وتحديداً في تاريخنا الاسلامي، لنجد أن القضية ليست بالسهلة والهينة في حلّها، وتحتاج الى هزّة عنيفة أو ربما هزّات متوالية لتصل الرسالة الى أعماق الضمير الانساني وتستنهضه وتدعوه لرؤية الحقائق وإعادة النظر في القناعات والمتبنيات مهما كانت. وهذه ليست دعوة الى التبرّع بالتضحية لمواجهة الانتحاريين، في وقت تدخل القضية في ملف أمني تخصصي ، وهناك الكثير ممن يعتقد أن بالامكان تحجيم وتطويق محاولات هؤلاء الانتحاريين ومن يقف خلفهم، و التقليل – على الاقل- من العمليات الارهابية التي تطال الأبرياء، من خلال اجراءات احترازية بوسائل استخبارية او تقنية عديدة، لكن في كل الاحوال، تبقى القضية، مواجهة بين جبهتين على طول الخط. فالارهاب الطائفي له امتداد من تاريخ الدولة الأموية، والمصالح السياسية والفئوية قائمة ومستمرة ايضاً، بمعنى أن توجيه الرسالة الى أعماق الضمير الانساني للكف عن انتهاك حقوق الانسان في العيش – على الاقل- ، تُعد مهمة أكيدة ومطلوبة في الساحة، وربما يأتي اليوم الذي لن نكون فيه بحاجة الى من يضحي بنفسه أمام انتحاري – تكفيري، إنما تكون المهمة الوحيدة هي خوض القتال في سوح المعارك ضد العدوان والظلم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 13/كانون الثاني/2014 - 11/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م